
الأحرار ينتفضون لغزة والعبيد منشغلون بالإنحطاط.. هم العدو
[جمال حسن]
* جمال حسن
قوافل المساعدات الإنسانية والدعم الغذائي والأدوية تبدل ما في وسعها من اجل اغاثة أهالي غزة المظلومين من شتى بقاع العالم في أساطيل "فك الحصار" تضم المئات من أحرار العالم غالبيتهم ليسوا من المسلمين حتى، رغم تعرضهم لأشد أنواع التنكيل والتعذيب والإضطهاد من قبل الكيان الإسرائيلي المجرم؛ فيما الشعوب العربية والإسلامية وفي مقدمتهم أبناء الجزيرة العربية لا ذكر لهم بين أصحاب الضمائر الحية!!.
وفي الوقت الذي تضجّ فيه شوارع العالم من نيويورك إلى كيب تاون مروراً بالعواصم الأوروبية وأمريكا اللاتينية، بالمظاهرات المنددة بالعدوان على غزة، وتتعالى الهتافات الحرة من أفواه الشعوب المطالبة بالعدالة ورفع الحصار؛ يعيش جزء من مجتمعنا العربي ـ وفي مقدمته السعودي ـ حالة من الإنشغال اللافت بما تسمى بـ"الفعاليات الترفيهية والموسيقية الداعر والمجون" التي تتوالى بلا توقف.. مشهدان متوازيان، يبدوان وكأنهما ينتميان إلى عالمين مختلفين: عالم يتألم ويتحرك، وآخر يغني ويرقص.
بينما يملأ طلاب الجامعات وأصحاب الضمائر الحية الشوارع في لندن وشيكاغو وبرلين وباريس أثينا وروما وواشنطن وجوهانسبورغ وسيدني وكوالالمبور و.. نصرةً لأبناء غزة الذين يذبحون كالخراف بدم بارد ويموتون جوعاً ومرضاً بسبب العدوان الاسرائيلي وحصاره؛ نشاهد في المقابل طوابير طويلة أمام المسارح ومراقص الغناء في الرياض وجدة.. إنها مفارقة مؤلمة: الشعوب الغربية التي طالما اتُّهمت باللامبالاة تتحرك لأجل فلسطين، فيما يتعامل بعض أبناء الأمة مع المأساة وكأنها خبر بعيد لا يستحق لحظة توقف.
هذا التباين الكبير لا يمكن قراءته قراءة سطحية والمرور عليه مرور الكرام خاصة وكلا الطرفين أشقاء في العقيدة والقومية والوطن، فالمسألة لا تتعلق بمجرد حفلات رقص وإرتماء في الأحضان بمشاركة كلا الجنسين في بلاد الحرمين وأخواتها الخليجيات تحت يافطة "الترفيه"، بل هي ظاهرة ثقافية واجتماعية خطيرة جداً باتت تجتاح مجتمعنا الإسلامي المحافظ من كل صوت وحدب، تعكس تغير سلم الأولويات في الوعي الجمعي العربي الإسلامي.
إنّ الشعوب الحية هي تلك الشعوب التي تعرف متى تصمت، ومتى ترفع صوتها من أجل الحق. وربما آن الأوان لأن نسأل أنفسنا: هل بات الطرب عندنا أعلى من صوت المظلومين؟ وهل الصمت أفضل من النطق بكلمة حق دعماً لأخوتنا في الدين والدم؟ وهل بات مشايخ الدعوة وعلماء الأمة الذين يفتون بكل شاردة وواردة، صم بكم عمي؟ أم كالحمار يحمل أسفار أمتثالاً لرغبة هبلهم "بن سلمان"؟؟.
فبينما كانت القضايا القومية والإسلامية تتصدر اهتمام الشعوب العربية والإسلامية خاصة أبناء الجزيرة العربية في العقود الماضية، باتت اليوم تتراجع أمام موجة من الهجوم الثقافي الصهيومسيحي بدفعهم نحو الإنشغال بالعهر والدعارة المثلية والعلمنة تحت يافطة التطور والتقدم، ذلك الإنحطاط الكبير الذي فرضته القوى المعادية لله سبحانه وتعالى وللدين الإسلامي والقيم الإنسانية عبر وسائل التواصل وبرامج الترفيه الحديثة لتميت ضمائر شعوبنا وتحرف البوصلة عن قضية الأمة والإنسانية فلسطين.
بعض الشخصيات العامة، وكذلك رؤوساء دول خاصة في أمريكا اللاتينية، باتت تعلن مواقف واضحة وصريحة وحادة تطالب بوقف العدوان واحترام حقوق الفلسطينيين.. المفارقة هنا أن الضمير الإنساني في الغرب تحرك بقوة، بينما خفت صوت الشارع العربي خاصة الخليجي منه في لحظة يفترض أن يكون فيها الأكثر حضوراً وتأثيراً.
وبينما كانت فلسطين قضية الأمة الأولى في وجدان الأجيال السابقة رمزاً للوحدة العربية والكرامة الإسلامية، أضحت اليوم موضوعاً هامشياً في الخطاب الإعلامي والثقافي العربي الإسلامي الجديد خاصة في البلدان الخليجية التي تطمر كل ما يشير إلى القضية ومظلومية الشعب الفلسطيني وأنهار الدماء الجارية بمجازر العدو الاسرائيلي؛ ومع تصاعد الحفلات والفعاليات الماجنة الداعرة، غابت الفعاليات التضامنية لمظلومية فلسطين، وغابت معها اللغة التي كانت تحيي الوعي الجمعي وتربط بين الإنسان وقضيته، وبين عقله ومعتقداته.
كل ذلك بسبب المواقف الرسمية للأنظمة الخليجية والعربية العميلة والحليفة مع الراعي الأمريكي، حتى باتت تتجنب حتى التوصيفات الحادة في خطابها السياسي المعسول خوفاً على عروشها، فباتت وكأن الأمر لا يعنيها لا من قريب ولا من بعيد آخذة جانب الحياد وأكثر ما تقوم به هو الدعوة إلى "التهدئة" و"ضبط النفس" دون تحميل الإحتلال الإسرائيلي الدموي مسؤولية مباشرة عن الكارثة الإنسانية المستمرة في غزة وسائر الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة.
.
فقد بات اعلام آل سعود والأنظمة الخليجية يركز وبكل ما أوتيت وبكل كثافة على مدار الساعة، على المحتوى الترفيهي والإحتفالي الانحطاطي الفاسد والفاسق، ما أسهم بشكل واضح في إعادة توجيه المزاج العام في الشارع الجزيري نحو ثقافة الإستهلاك الشهواني كبديل عن المواقف الإنسانية والإسلامية وإبعاده عن السياسة؛ فقد بات البث يومياً ومباشراً على الهواء وفي جميع القنوات السعودية والخليجية لحفلات ونجوم ساقطين مؤثرين على هوى النفس الدنيئة، يغطي مساحة المشاعر الجمعية التي كانت تُشغل سابقًا بالتفاعل مع قضايا الأمة خاصة فلسطين.
ففي الوقت الذي يتحرك فيه الضمير الإنساني في الغرب على نطاق واسع، يتراجع الخطاب الأخلاقي في الشرق العربي، حتى باتت الشعارات التي تُرفع هناك تذكرنا بما كنا نقوله نحن قبل عقود؛ وقد باتت المفارقة الأشد وقعاً أن الحراك الشعبي الأكبر لنصرة غزة لم يأتِ من العواصم العربية خاصة الخليجية ، بل من الجامعات الأمريكية والبريطانية والفرنسية والأسترالية، ومن النقابات والمؤسسات المدنية الغربية.
لقد غابت المسيرات والفعاليات التضامنية العربية، وغابت معها رمزية “الأمة” التي كانت تعتبر فلسطين قضيتها المركزية؛ وتحولت الأزمة من قضية سياسية دينية أخوية الى أزمة وعي أنساني بات المواطن الخليجي والعربي والبعض الإسلامي يفتقده منشغلاً بحضور أكبر في حفلات العهر والفسق والفجور؛ وما لم يستعد العالم العربي وعيه الأخلاقي تجاه فلسطين، فإن الآخرين سيواصلون احتلال المشهد الإنساني الذي كنا نحن أهله الأوائل.
عندما نتكلم عن «ذبح غزة»، نتحدث عن معاناة بشرية حقيقية: مئات الآلاف من المدنيين بين قتيل وجريح ومتضرر، بنى تحتية مدمرة، ونزوح داخلي طويل الأمد؛ معاناة لا تحدث في فراغ؛ بل هي نتاج تداخلات محلية وإقليمية خيانية على مدى عقود طويلة، بإيعاز امريكي بريطاني خبيث تحت مسميات الاتفاقات والقرارات العربية والإسلامية، وبيان اللجنة العربية الإسلامية الداعم لخطة ترامب باحتلال صهيوأمريكي لغزة بدعم عربي اسلامي، آخر صورة لنفاق الأنظمة المشاركة وخيانتها للأمة؛ {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ} - المنافقون:4.
وكما يقولون فإن الأمم تختبر في لحظات الألم لا في لحظات الفرح، والحبيب المصطفى صلوات الله عليه يقول: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"؛ هذا الواجب الشرعي يحتم على كل مسلم القيام بنصرة أهل الحق من المسلمين المستضعفين خاصة أهل غزة، كل بحسب موقعه وبقدر استطاعته وقوته وعلى قدر إمكانيته ومكانته ومسؤوليته ومستوى تأثيره.
ارسال التعليق