
مؤشرات صادمة بالاقتصاد السعودي: تعثر وفجوات تمويلية تتّسع
تضع تقييمات وكالة موديز الأخيرة الاقتصاد السعودي أمام مرآةٍ أقلّ تجميلاً: إنجازات متفرّقة، لكن الصورة الكلية متصدّعة بتحديات هيكلية لا يمكن التعامي عنها وسط تقدّمٌ “غير متكافئ” للمشاريع العملاقة وفجوات تمويلية تتّسع.
إذ تصف الوكالة تقدّم المشاريع الكبرى—المحورية في أجندة “رؤية 2030”—بأنه “غير متوازن”، بسبب قيود هندسية، فتور الاستثمارات الخاصة، وضغط أسعار النفط المنخفضة على التمويل، وهي نقاط تمسّ عمق نموذج النمو الحالي لا هامشه.
المشاريع “القدوة” المراد لها أن تعيد تموضع المملكة على خريطة الابتكار تواجه صعوبات تنفيذية ملموسة. تعقيدات الحجم والتصميم الطموح تُترجم تأخيرات في “تروجينا” وإعادة تقييم لجدوى “ذا لاين” عبر مراجعات استشارية أمرت بها الحكومة نفسها—إشارة ضمنية إلى أن معادلة الكلفة/العائد لا تزال قيد البحث وليس الحسم.
وهذا التباطؤ يبدّد أثر الرسائل التسويقية، ويفرض كلفة وقتية ومالية على ميزانيات المشاريع وسلاسل التوريد المحلية.
تقرّ موديز بأن تمويل المشاريع العملاقة يتركّز في صندوق الاستثمارات العامة وشركاته التابعة، مع ضعف مشاركة القطاع الخاص. عملياً، هذا يعني تراكُم مخاطر التمركز في طرفٍ واحد، وتحوّل الصندوق—المفترض أن يكون مستثمراً تجارياً طويل الأجل—إلى مموِّلٍ عام بحكم الأمر الواقع.
ومع انخفاض النفط وتذبذب توزيعات أرامكو، تتراجع القدرة الذاتية على تغطية فجوات الاستثمار دون اللجوء إلى دينٍ إضافي أو إعادة ترتيب أولويات الإنفاق العام. النتيجة: تأخيرات، تقليص نطاق، أو ترحيل جداول—وكلها يخصم من زخم التنويع نفسه.
رفعت الحكومة السعودية تقدير عجز 2025 إلى 5.3% من الناتج—أكثر من ضعف التوقع السابق—مع ترجيح استمرار الفجوة حتى 2028 على الأقل، وفق التغطيات المتوافقة لبنوك الاستثمار ووكالات التصنيف.
وهذا ليس رقماً عابراً؛ إنه تحوّل في مسار الضبط المالي تحت ضغط الإيراد النفطي والإنفاق الاستثماري الثقيل. وكلما طال أمد العجز، ارتفعت كلفة التمويل وهشاشة الموازنة أمام أي هزّة في السلع أو الأسواق.
جوهر القصة المالية يبقى النفط: تقدّر بلومبيرغ إيكونوميكس سعر التعادل للموازنة عند نحو 94 دولاراً/برميل—أعلى مما كان قبل عقد—ويقفز فوق 100 دولار عند احتساب الإنفاق المحلي لـPIF.
مقابل ذلك، تدور الأسعار في نطاق أدنى بكثير، ما يخلق فجوة هيكلية بين الإيراد الفعلي وحاجات الإنفاق، ويجعل أيّ دورة هبوط جديدة في النفط تهديداً مباشراً للإنفاق الرأسمالي والسيادي معاً.
اندفاع المملكة في أكبر استحواذ بالرافعة المالية في التاريخ (55 مليار دولار لشراء Electronic Arts مع سيلفر ليك وAffinity) يرسّخ صورة “السعودية المستثمر العالمي”.
لكن من زاوية الاستدامة، فإن تخصيص رأس مال سيادي كبير لصفقات خارجية كثيفة الرفع المالي يطرح سؤالين سلبيين:
الأول: كلفة الفرصة على المشاريع المحلية التي تواجه أصلاً تأخيرات وتمويلًا مشدوداً.
الثاني: مخاطر دورة الائتمان العالمية على صفقة عالية التسعير، في قطاعٍ يمرّ بتباطؤ نمو وحساسية دوريّة.
حتى لو تحققت مكاسب استراتيجية للبراند المحلي وصناعة الترفيه، يبقى خطر تشتيت الموارد قائماً في لحظةٍ تحتاج فيها المشاريع الداخلية إلى كل ريال “ذكي”.
تستفيد المملكة من هامش دينٍ إلى ناتج لا يزال مريحاً، وتُبقي شهية المستثمرين مفتوحة عبر إصدارات متنوّعة—منها سندات خضراء مقوّمة باليورو—لكن سعر الفائدة العالمي المرتفع يعضّ على فاتورة خدمة الدين.
والاعتماد على الدَين لتمويل فجواتٍ تشغيلية/استثمارية قد يكون منطقياً في الأجل القصير، لكنه لا يُغني عن معالجة مصادر العجز. وإلا، يتحوّل الدين من جسر تمويل إلى عبءٍ دوريّ يحدّ من مرونة السياسة المالية مستقبلاً.
أغلب المشاريع العملاقة تتطلب سلاسل توريد معقّدة، وبيئة مقاولين محليين قادرين على تسليم مواصفات عالمية بسرعة وبتكلفة منضبطة.
الواقع أن السوق لا يزال يبني قدراته: عقودٌ تُعاد صياغتها، جداول زمنية تُراجع، ومكوّن محلي (Local Content) يصطدم بإنتاجيةٍ ومعايير تحتاج وقتاً لترسّخ. هذه ليست “أخطاءً تكتيكية” بل عنق زجاجة هيكلي يُبطئ تحويل الإنفاق العام إلى قيمة مضافة مستدامة.
الانطباع السلبي الأوضح لدى المستثمرين الدوليين هو ازدواج الخطاب: إعلان عجزٍ أعمق محلياً، مقابل توسّعٍ استثماري ضخم خارجياً—من الألعاب إلى الأصول الترفيهية—وبينهما مشاريع داخلية تتعثّر.
ويبعث هذا التباين إشارات متناقضة بشأن أولويات رأس المال ومخاطر التنفيذ، ويزيد من علاوة الحذر التي تسعّرها الأسواق على أدوات الدين والائتمان السيادي. حتى تقارير فيتش الأخيرة تربط صراحةً بين هبوط النفط والتزامات الإنفاق الضخمة وارتفاع المخاطر المالية، ما يعني أن نافذة التسامح السوقي ليست مفتوحة على اتساعها.
التنويع الحقيقي لا يقوم على استثمارات سيادية فقط، بل على رأسمال خاص يغامر، يبتكر، ويخلق وظائف قابلة للحياة دون دعمٍ دائم. ما لم تُحلّ عقبات بيئة الأعمال—من الإطار التنظيمي واليقين التشريعي إلى شروط التوطين وتكلفة التمويل—سيبقى القطاع الخاص تابعاً للموجات السيادية، لا محركاً أصيلاً للنمو. هذا ما تحذّر منه موديز صراحة: استمرار هيمنة PIF يجعل النموذج غير قابل للاستدامة على المدى الطويل.
ارسال التعليق