عن تحديات الكيان "السعودي" الموغلة
منذ تأسيس “المملكة”، ارتكز آل سعود لنيل شرعية حكمهم على 3 أعمدة إلى جانب رعاية قوة كبرى، فكان أولاً التحالف مع الوهابية، والتحالف مع الدولة الريعية ثانياً، والتصدي لعدو يُنتخب ويُقدم على انه الخطر الوجودي أخيراً: إذا ما وضعنا النفط جانباً فإن الركيزة القوية التي قام عليها النظام هي تحالفه مع العقيدة الوهابية والمؤسسة الدينية والتي عمل على تعزيزها من خلال الدولة الريعية”، أتى ذلك بالتوازي مع تشعبات التقسيم التي تطال "المجتمع السعودي"، إذ بالإضافة إلى القسمة القائمة على ثنائيات قبلي- وطني ديني-سياسي/اقتصادي- اجتماعي/وطني- طائفي، هناك أيضاً انقسام للجناح الديني (الوهابية – الاخوان المسلمين) وتنافس على الرؤية الدينية السياسية للـ"مملكة".
لم يكن الانتقال السريع والمفاجئ من الخيمة إلى ناطحات السحاب بالطفرة الطبيعية بل أتت تفتقر للملاءة المعرفية والنفسية ما أدىإلى فجوات عميقة. وفي ستينات القرن الماضي إبّان الصراع السياسي بين الزعيم جمال عبد الناصر و"الملك" فيصل شهدت "السعودية" حالة من هجرة الإخوان المسلمين إليها، وبالرغم من تأثرهم بالسلفيّة الوهابيّة نتيجة المعايشة الطويلة معها في ظل بيئة مغلقة وتوجيه ثقافي صارم إلا أن الإخوان مثّلوا في "السعودية" على نحو ما "تياراً إسلاميّاً لا يعاني مشاكل مع التحديث السريع في الدولة التي باشر الملك فيصل بناءها على خلاف التشدّد الوهابي الذي كان يرفض الآخر الأجنبي بكل أشكاله". وقد عزّز ذلك موقع الإخوان بفعل ولوجهم قلب المشروع التحديثي الذي بدأه فيصل منذ أواخر الستينيّات بحيث تمدّد الوجود الإخواني في معظم الجامعات "السعودية" التي تأسّست غالبيتها في هذه الفترة.
إلا أنه دائما ما كان هناك حالة من الافتقار إلى الطاقة البيضاء من النخب والمبدعين، على الرغم من وفرة المال والصروح العلمية الجامعية، ربطا باعتماد النظام السعودي على قوة فائض المال، ما يجعلها تقارب أغلب المشاكل بذهنية أن كل شيء يتم بالمال. دون التغافل عن تأثير تغييب الحياة السياسية إن كان من الأحزاب او النقابات او حتى التعبير الفردي على مستوى الحياة الثقافية والفكرية في البلاد، ربطاً بالعقد الاجتماعي القائم.
لكن، منذ بداية التسعينات من القرن المنصرم، بدا أن ثمة بدايات لتشكل نوع من المعارضة السياسية تعبر عن خليط من التوجهات الفكرية والدينية والإيديولوجية ما بين إسلاميين وليبراليين، حتى بدأت تظهر مع نهاية التسعينات معالم توجهين، الأول ديني تقدمي يطالب بضرورة تطوير أداء المؤسسة الدينية الرسمية، والتشجيع على ضرورة تفسير الدين الإسلامي بطريقة يمكنها استيعاب الأفكار الحديثة، مثل محاسبة الحكومة وتدعيم الحريات السياسية واحترام حقوق الإنسان. أما التيار الثاني فهو ليبرالي إصلاحي يهتم بالحريات السياسية والحقوق المدنية للرجال والنساء، كما يضغطون من أجل تعزيز المساواة بين الأغلبية السنية والأقلية الشيعية وتعزيز مشاركتهم في الأمور العامة.
التحديات العامة:
ولطالما واجه النظام عدد من التحديات العامة التي لم تخضع لمعالجة حقيقية يوما، بل دائما ما تبنى النظام السعودي حالة الإنكار وتزييف الواقع إلى جانب اللعب في الأولويات وزيادة جرعات القمع.
وفي إضاءة مختصرة على بعض جوانبها تبرز مسألة الهوية، والمخاض الذي تشهده "المملكة" في النموذج الاجتماعي، ويعبر عنه بالانتقال من النموذج البدوي كإطار اجتماعي إلى نمط لم تتحدد ملامحه بعد، يأتي ذلك بالتوازي مع حالة من الانقسام العامودي لدى جيل الشباب، بين توجه الشباب الديني الملتزم، وهابياً او اخوانياً، مقابل شريحة من خريجي الجامعات الغربية تأمل بتغيير قيمي ومؤسسي كبير في “المملكة”، بالأضافة إلى التمييز الذي يطال مروحة واسعة من المجالات الحياتية، والتي يمكن طرحها بالعناوين التالية: التمييز الجندري، والنسب القبلي فضلاً عن خصوصية العائلة المالكة، التمييز المناطقي خاصة بين المناطق الساحلية الغربية منها والقديمة وقلب "السعودية" الذي ولد مع آل سعود، التمييز المذهبي، التمييز الإقتصادي الذي يشير إلى الهوة في توزع الدخل.
يمكن القول أن سيطرة الهوية المركزية على الهويات الفرعية، وغياب الفردانية في مجتمعات شبه الجزيرة العربية بمساعدة الإعلام المركزي أدى إلى غياب تفاعل الفرعيات "السعودية" فيما بينها كما يجب، الأمر الذي سعى له النظام السعودي. حيث يسعى الأخير لتغييب أي شكل من أشكال التفاعل بين الفئات المجتمعية وبالتالي المساهمة في تذليل "الوحش" الذي زرعه النظام في النفوس من الآخر، ودحض سردية المؤامرة والتمويل الخارجي، كما مخطط "الهلال الشيعي" وتمدد الثورة الإسلامية في إيران.
وفي سياق متصل، تبرز مسألة الخطاب كمؤشر على التحديات المستدامة فبعد أن حرصت "السعودية" في مرحلة التأسيس على “تقديم نفسها من خلال الخطاب الوهابي واحتكار تفسير الدين من خلال الرمزية الدينية”. فقد تأثر الخطاب السعودي بعدة مراحل، إذ أن “السعودية” خلال الصراع مع الناصرية تبنت خطاب الملكيات والدفاع عنها وعمقت من قوة الخطاب الديني بمواجهة الاشتراكية-الشيوعية، وبعد سقوط الناصرية وعلى أثر النكسة تبنت خطاب التضامن العربي، أما بعد انتصار الثورة الاسلامية في إيران وسقوط شرطي الخليج (الشاه) عمّقت الخطاب العربي والتشديد على البعد الاسلامي السني في الهوية، إلى أن نلحظ اليوم أنها تسعى لتعريف هويتها وتقديم خطابها من زاوية الدولة الوطنية المتمثلة بالإسلام المعتدل، في تناقض كامل مع الواقع الممارس والتمسك بسياسة الإعدامات والاعتقالات حتى ممن لطالما حسبوا من المسنودين على النظام. إن الازدواجية التي تحاصر نموذج "الكيان" السعودي يسعى بن سلمان إلى إلغائها عبر مضاعفة القمع على جهات متعددة، إن بوجه المعارضة في القطيف والإحساء أو منافسيه من داخل العائلة "المالكة"، أو الدعاة الوهابيين الرافضين للإجراءات الجديدة للنيل من أي مظهر يتعارض والصورة المراد إظهارها.
ارسال التعليق