بعيدا عن العاصمة.. تحولات مثيرة في سياسة جماعات الضغط السعودية في أمريكا
التغيير
في 19 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، عقدت سفيرة المملكة لدى الولايات المتحدة الأميرة "ريما بنت بندر" جلسة خاصة مع جمهور غير عادي.
ولم يكن من بين هذا الجمهور أعضاء في الكونجرس أو مسؤولون في البيت الأبيض. ولم يتواجد مسؤولو وزارة الخارجية ولا الصحفيون.
وبدلا من ذلك، تحدثت سفير المملكة إلى مجموعة من قادة الأعمال والطلاب والمعلمين في فيلادلفيا وغيرهم من السكان المحليين المهتمين بالشؤون الخارجية.
وقد وُصف الحدث بأنه "نقاش صريح" مع أول سفيرة للمملكة في استضافة "مجلس الشؤون العالمية" في فيلادلفيا، وهي مجموعة تعليمية غير ربحية.
وقالت رئيسة المجلس "لورين شوارتز" التي قادت جلسة "زوم" مع "ريما": "كانت هناك رسالة كبيرة للتغيير والتقدم. ولم يُذكر هذا كثيرا في الصحف هنا".
ويبدو أن اجتماع فيلادلفيا جزء من استراتيجية ضغط جديدة لحكومة المملكة ، أُطلقت في أعقاب مقتل الصحفي "جمال خاشقجي"، للتركيز على التواصل مع المسؤولين المحليين من نيو أورلينز إلى أنكوريج.
وتريد المملكة أن تقدم نفسها كلاعب محوري في خضم تحولات المنطقة بشأن حقوق المرأة.
وقال "بن فريمان"، مدير الشؤون الخارجية في مبادرة الشفافية المؤثرة في مركز السياسة الدولية، وهي مجموعة غير ربحية لأبحاث السياسة الخارجية: "لقد اتخذوا قرارا محسوبا ولسان حالهم يقول، نحن نخسر المعركة حقا هنا (في واشنطن). وعلينا أن نخوض هذه المعركة في أمريكا كلها".
وقبل مقتل "خاشقجي"، كانت المملكة معروفة في واشنطن بقوة ضغطها، التي تغذيها قائمة باهظة التكلفة من المستشارين السياسيين ونشطاء العلاقات العامة.
ولكن مع ظهور التفاصيل المروعة لمقتل "خاشقجي"، سرعان ما ألغت جماعات الضغط، التي جمعت الملايين من حكومة المملكة، عقودهم المربحة.
ومع بدء تبخر تأثير المملكة على مبنى الكابيتول هيل، تحولت المملكة في استراتيجيتها واستأجرت شركة استشارية مقرها في ولاية أيوا.
وقال "فريمان": "لا أستطيع أن أتذكر أن أي دولة أطلقت مثل هذه الحملة المنتشرة لكسب النفوذ في وسط أمريكا كما هو حال نظام آل سعود ".
وأضاف: "يبدو نوعا ما أن ما يفعلونه هو التسويق الماكر"، في إشارة إلى تكتيك جعل الحملة تبدو وكأنها تنبع من نشطاء على مستوى القاعدة، بينما في الواقع، يتم تنظيمها من قبل مستشارين أثرياء. ويقول النقاد إن استراتيجية المملكة ذكية.
وخارج دوائر السياسة الخارجية في واشنطن، من المرجح أن يتابع القليل من الأمريكيين أهوال الحرب في اليمن التي أودت بحياة الآلاف وساهمت في أسوأ أزمة إنسانية في العالم.
وربما فاتهم تفاصيل مقتل "خاشقجي"، بما في ذلك التقارير التي تفيد بأن القتلة استخدموا منشارا لتقطيع أوصاله.
وقالت "سارة ليا ويتسن"، المديرة التنفيذية لمنظمة "الديمقراطية في العالم العربي الآن"، وهي مجموعة حقوقية شارك "خاشقجي" في تأسيسها: "إذا عرضت المملكة فكرتها على جمهور لا يعرف حقيقة المملكة، فربما يتم خداعهم.
وفي بيان عبر البريد الإلكتروني، قال المتحدث باسم سفارة المملكة ، "فهد ناظر"، إن المملكة تحافظ على "علاقات صحية وبناءة مع كبار مسؤولي الإدارة الأمريكية وكذلك قادة الكونجرس".
وقال في الوقت نفسه: "نحن ندرك أن الأمريكيين خارج واشنطن مهتمون بالتطورات في المملكة ، وأن العديد منهم، بما في ذلك مجتمع الأعمال والمؤسسات الأكاديمية ومجموعات المجتمع المدني المختلفة، حريصون على الحفاظ على علاقات طويلة الأمد مع المملكة أو خلق علاقة جديدة".
وفي أحد تقارير الإفصاح الفيدرالية، كتب أعضاء جماعات الضغط في ولاية آيوا أن عملهم كان يهدف إلى "توعية الجمهور والمسؤولين الحكوميين ووسائل الإعلام بأهمية تعزيز العلاقات بين الولايات المتحدة و المملكة ".
مقتل "خاشقجي" يدمر استراتيجية المملكة في العاصمة
وبعد مقتل "خاشقجي"، استنكر المشرعون سلوك "محمد بن سلمان"، ووصفوه بأنه "كرة مدمرة لطخت سمعة بلادها".
وقالت "سارة ليا ويتسن": "فضيحة مقتل خاشقجي دمرت حقا أي رأس مال اجتماعي والصورة الذهنية التي كان بن سلمان يحاول بناءها. وزاد نظام آل سعود الطين بلة مع مرور كل يوم بما كانوا يقدمون من أكاذيب وإنكار".
والآن، أصبحت قضية "خاشقجي" في دائرة الضوء مرة أخرى، مع الإفراج عن تقرير استخباراتي أمريكي يربط مباشرة "بن سلمان" بقتل "خاشقجي".
وسرعان ما جدد التقرير، الذي أصدره مدير المخابرات الوطنية في إدارة "بايدن"، الجدل الحاد حول التحالف الأمريكي مع نظام آل سعود.
وتعهد الرئيس الأمريكي "جو بايدن" بإعادة تقييم العلاقات مع المملكة، لكنه قاوم دعوات من الديمقراطيين في الكونجرس وجماعات حقوق الإنسان لمعاقبة "بن سلمان" مباشرة.
وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض "جين بساكي": "هدفنا هو إعادة تقييم العلاقة، ومنع حدوث ذلك مرة أخرى، وإيجاد طرق للعمل مع القيادة في المملكة ".
وأشارت إلى أن الولايات المتحدة لا تعاقب عادة قادة الدول التي لها علاقات دبلوماسية معها.
وحتى الآن، اتخذ "بايدن" خطوات تدريجية لإبعاد الولايات المتحدة عن المملكة ، حليف أمريكا الرئيسي في الشرق الأوسط.
وأوقف مؤقتا مبيعات بعض الأسلحة للمملكة، وأوقف دعم العمليات الهجومية في اليمن.
أناس حقيقيون يعالجون قضايا حقيقية
وقد قرر المسؤولون في المملكة تبني أسلوب جديد للتغلب على أي توبيخ آخر من البيت الأبيض.
وبالرغم من انخفاض إنفاق حكومة المملكة على جماعات الضغط من 34 مليون دولار في 2018، وهو العام الذي قُتل فيه "خاشقجي"، لا تزال المملكة تقدم ملايين الدولارات، بنحو 17 مليون دولار في عام 2019 ونحو 6 ملايين دولار العام الماضي.
ولا يشمل ذلك الإنفاق من قبل الكيانات المرتبطة بالمملكة ، مثل شركة الصناعات الأساسية (سابك)، وهي شركة تصنيع مواد كيميائية تعود 70% أسهمها لشركة "أرامكو".
وتُظهر السجلات أن الحكومة في المملكة لم تتخل عن الضغط الذي يركز على واشنطن.
وأفاد مستشاروها بوجود أكثر من 650 اتصالا مع مجلسي النواب والشيوخ و123 اتصالا آخر مع مراكز أبحاث مقرها العاصمة، وفقا لتحليل "مبادرة الشفافية للتأثير الأجنبي".
ومع ذلك، كان هناك تحول ملحوظ في التركيز، كما قال "فريمان"؛ حيث ظهر أن أكثر من ألف من نحو ألفي شخص تم الإبلاغ عن اتصالاتهم بجماعات الضغط في عام 2020 كانوا أفراد ومجموعات خارج العاصمة.
وقال "فريمان": "نراهم يتواصلون مع غرف التجارة المحلية، إلى جانب المنظمات والمعابد اليهودية".
واستهدفت حملة التأثير أيضا وسائل إعلام أصغر خارج واشنطن.
وقال "فريمان"، على سبيل المثال، إن وكلاء المملكة اتصلوا بمجلة "شال"، ومقرها تكساس، والمكرسة للترويج لصناعة الطاقة، 7 مرات، ما يضاهي عدد المرات التي اتصلوا فيها بـ "واشنطن بوست" (4 مرات)، و"أمريكا اليوم" (3 مرات)، مجتمعين.
وتعد شركة الضغط الرئيسية التي تقف وراء الاستراتيجية الجديدة هي "إل إس تو جروب"، ومقرها دي موين بولاية أيوا، ودفعت الحكومة في المملكة أكثر من مليون دولار كرسوم لها في عام 2020.
ويقول موقع الشركة على الإنترنت: "نحن أناس حقيقيون نتعامل مع قضايا حقيقية". وتظهر السجلات أن هذه الشركة بدورها جلبت مستشارين آخرين في ولاية ماين ونورث كارولينا وجورجيا، من بين ولايات أخرى.
وكانت بعض "القضايا الحقيقية" التي ركزت عليها المجموعة هي حقوق المرأة في المملكة.
وبموجب القانون الفيدرالي، يجب على جماعات الضغط التابعة للحكومات الأجنبية تقديم تقارير مفصلة حول عمليات نفوذهم.
وأحد الملفات التي قدمتها المجموعة عبارة عن كتيب فخم يروج "للتقدم الكبير في مجال المرأة والرياضة"، مع صور ملونة لسيدات يركضن ويركبن الدراجات ويمارسن الرياضة فيما يلبسن الحجاب.
وينص الكتيب على أنه منذ عام 2017، منحت الحكومة في المملكة تراخيص لصالات الألعاب الرياضية النسائية التي كانت ممنوعة سابقا، من بين خطوات أخرى.
وقالت "سارة ليا ويتسن": "لديهم كيس كبير من المال ينفقونه، ومن الواضح أن شركات العلاقات العامة تبتكر دائما طرقا جديدة لإنفاقه".
وفي الواقع، في نفس الوقت الذي كانت فيه حكومة المملكة تروّج لهذه الإصلاحات في الولايات المتحدة، كانت تسجن بعض الناشطات البارزات في مجال حقوق المرأة، بما في ذلك "لجين الهذلول"، التي ضغطت لإنهاء الحظر المفروض على قيادة المرأة للسيارة في المملكة.
وفي ديسمبر/كانون الأول، حكمت عليها محكمة بالسجن 6 أعوام تقريبا بموجب قانون واسع لمكافحة الإرهاب.
وتم الإفراج عن "الهذلول" في 10 فبراير/شباط، بعد أن علق القاضي جزءا من عقوبتها وكان الوقت الباقي قد قضته بالفعل.
وقالت هي وسيدات أخريات إنهن تعرضن للتعذيب والاعتداء الجنسي أثناء احتجازهن.
عندما يكون الدبلوماسي "أميرة"
وإذا كانت "إل إس تو جروب" هي قناة المملكة وراء الكواليس تستهدف الأمريكيين العاديين، فإن "ريما" هي الوجه العام للمملكة.
وأصبحت الأميرة، التي تلقت تعليمها في الولايات المتحدة، أول سفيرة للبلاد في عام 2019، حيث سارع أفراد العائلة المالكة لاحتواء تداعيات مقتل "خاشقجي".
وعاشت "ريما" في الولايات المتحدة لمدة 22 عاما، من 1983 إلى 2005، عندما عمل والدها سفيرا للمملكة في واشنطن.
وقالت "ليز فالسكو"، الرئيسة والمديرة التنفيذية لـ"مجلس الشؤون العالمية" في ألاسكا، إنها شعرت بسعادة غامرة عندما سمعت أن "ريما" مستعدة للتحدث إلى مجموعتها.
وكانت قد دعت السفير السابق لزيارة ألاسكا لكنها لم تتلق أي رد منه.
وقالت "فالسكو": "كونها دولة نفطية، وكون ألاسكا دولة نفطية، فمن المثير للاهتمام أن تسمع وجهة نظرهم بشأن الغاز والأسواق العالمية وظروف منطقتهم، مع ميزة كونها امرأة".
واعترض عضو واحد فقط في المجلس، وهي امرأة سورية قالت إن "ريما" لن تعطي سكان ألاسكا صورة حقيقية.
وقالت "فالسكو": "شعرت هذه المرأة المعترضة أن قصة المملكة بحاجة لأن تُروى، لكن من قبل شخص آخر".
لكن "ريما" أثارت إعجاب 70 شخصا حضروا اجتماع "زوم"، بما في ذلك المرأة التي اعترضت في البداية.
وقالت إن ممثلي مجموعة الضغط طلبوا منها عدم تسجيل الجلسة، ولم تستطع تذكر تفاصيل الحوار.
لكنها قالت إنه لا عجب إذا قدمت "ريما" رؤية وردية لبلدها الأم، وهذا ما يفترض أن يفعله جميع الدبلوماسيين.
وقالت "فالسكو": "إنهم يحاولون تعزيز السلام والتعاون والتحدث عن الإيجابيات، وقد قامت ريما بعمل جيد للغاية".
وقال "شوارتز"، رئيس مجلس الشؤون العالمية في فيلادلفيا، إنه "لم يكن هناك أي تردد من جانبنا" في استضافة "ريما" عندما أتيحت الفرصة، لأن المملكة تعني "أشياء كثيرة".
وكانت "ريما" بارعة جدا في تجنب الأسئلة حول وضع المرأة في المملكة ومجموعة من القضايا الأخرى، رغم أن أحدا لم يضغط عليها بشأن مقتل "خاشقجي".
وقالت "شوارتز": "تحدثت حول تأثير المملكة، والفرص المتاحة لها، وعلاقاتها بولاية بنسلفانيا، بما في ذلك العلاقات في صناعة الطاقة في الولاية".
ولكن استراتيجية المملكة لم تلق ترحيبا في كل مكان. وقالت "كيلي بوندر"، من "مجلس دبلوماسية المواطنين" في نيو أورلينز، إن مجموعتها قررت عدم استضافة "ريما".
وقالت: "لم نكن نريد الدخول في أي شيء سياسي أكثر من اللازم"، مضيفة أن مجموعات دبلوماسية أخرى تعتمد على المواطنين اتخذت نفس القرار.
وقالت "بوندر" إنها كانت مسألة "عدم معرفة بما نحن بصدد الدخول فيه".
ارسال التعليق