
تقرير أممي: السلطات السعودية تمارس انتهاكاتها بكل اريحية
أصدرت الخبيرة المستقلة المعنية بتمتع كبار السن بجميعة حقوق الإنسان، كلوديا ماهلر، تقريرها النهائي حول زيارتها إلى “السعودية” في الفترة من 20 إلى 30 نيسان/أبريل 2025، مسلّطة فيه الضوء على جوانب عديدة من الانتهاكات التي يمارسها النظام السعودي في مختلف الأصعدة.
يكشف تقرير الخبيرة المستقلة ماهلر عن هشاشة الإطار القانوني لـ"السعودية" وعجزه عن توفير حماية شاملة وفعالة لحقوق كبار السن. على الرغم من أن "السعودية" طرف في عدد من الاتفاقيات الدولية ذات الصلة، فإن هذا الالتزام لا ينعكس بشكل كافٍ في تشريعاتها الداخلية. فمن أهم النقاط التي أشار إليها التقرير هي أن "السن" لم يُدرج ضمن أسس التمييز المحظورة في الإطار الدستوري للبلاد. هذا النقص التشريعي يفتح الباب على مصراعيه أمام التمييز ضد كبار السن في مختلف جوانب الحياة، من سوق العمل إلى الحصول على الخدمات والرعاية الصحية، وهو ما يتناقض بشكل صارخ مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان.
كما يوضح التقرير أن نظام حقوق كبير السن ورعايته، الذي صدر في عام 2022، يمثل خطوة غير كافية. فبينما يهدف إلى تنظيم بعض جوانب حياة كبار السن، فإنه يفتقر إلى أحكام صريحة تحظر التمييز على أساس السن في مجالات أساسية خارج نطاق العمل. الأسوأ من ذلك، أن هذا النظام لا يتضمن أي إشارة إلى حق كبار السن في المشاركة في الحياة العامة وصنع القرار، أو حتى التشاور معهم بشأن السياسات التي تؤثر عليهم. هذا الإهمال يعكس نهجًا أبويًا في التعامل مع كبار السن، يراهم كأشخاص يتلقون الرعاية بدلًا من كونهم أفرادًا فاعلين ومستقلين لهم الحق في التعبير عن آرائهم والمساهمة في مجتمعهم.
ولعل أكثر ما يثير القلق في تقرير ماهلر هو تحليلها لبرنامج "رؤية السعودية 2030". فبينما يتم تسويق هذه الرؤية كخطة طموحة للتنمية، يؤكد التقرير أنها تفتقر إلى نهج قائم على حقوق الإنسان فيما يتعلق بكبار السن. لم يتضمن البرنامج أي إشارة صريحة للحق في المساواة وعدم التمييز والمشاركة، مما يجعله عرضة لتهميش الفئات الأكثر ضعفًا، مثل النساء المسنات، والعمال المهاجرين، والعمال غير الرسميين. هذا الإهمال المنهجي يدل على أن الرؤية تركز على الإنجازات الاقتصادية الكبرى، وتتجاهل عن عمد الجوانب الاجتماعية والحقوقية الأكثر حساسية، مما يترك هذه الفئات خلف ركب التنمية.
يكشف تقرير الخبيرة المستقلة ماهلر عن خلل بنيوي في أنظمة الحماية الاجتماعية في "السعودية"، مما يترك غالبية كبار السن دون شبكة أمان كافية. على الرغم من وجود نظام معاشات تقاعدية قائم على الاشتراكات، فإن تغطيته محدودة للغاية؛ فـ 24.5% فقط من الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 60 سنة فأكثر يحصلون على معاش تقاعدي من هذا النظام. هذا الرقم الصادم يعني أن ما يقرب من ثلاثة أرباع كبار السن لا يمكنهم الاعتماد على هذا النظام الأساسي.
تتفاقم هذه المشكلة بسبب الإقصاء المتعمد لكبار السن من غير المواطنين والعمال غير الرسميين، الذين يشكلون نسبة كبيرة من السكان المقيمين في "السعودية". هؤلاء الأفراد، الذين ساهموا في بناء الاقتصاد السعودي لسنوات طويلة، يُتركون دون أي حماية عند تقدمهم في السن، وهو ما يتعارض بشكل مباشر مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان التي تدعو إلى توفير الضمان الاجتماعي للجميع دون تمييز.
أما نظام الضمان الاجتماعي غير القائم على الاشتراكات، فهو لا يمثل حلًا عادلًا. فوفقًا للتقرير، لا يشمل هذا النظام كبار السن من غير السعوديين على الإطلاق. وحتى بالنسبة للمواطنين، فإن الحد الأقصى للاستحقاق الفردي يبلغ 1320 ريالًا سعوديًا شهريًا، وهو ما يمثل ثلث الحد الأدنى للراتب الشهري للمواطنين. هذا المبلغ لا يزال غير كافٍ لتغطية الاحتياجات الأساسية في المدن الكبرى، ولا يُعدل تلقائيًا لمراعاة التضخم أو فروق تكلفة المعيشة، مما يضع العديد من كبار السن تحت خط الفقر. هذا الواقع المؤلم يظهر أن الأنظمة الاجتماعية في "السعودية" لا توفر الحماية اللازمة لمن هم في أمس الحاجة إليها.
يسلط تقرير ماهلر الضوء على جانب مظلم ومستتر في نظام الرعاية الاجتماعية في "السعودية"، وهو استغلال عمال الرعاية المنزلية. فالنظام الاجتماعي والثقافي في "السعودية" يعتمد بشكل كبير على الرعاية الأسرية لكبار السن، ولكن مع التغيرات الديموغرافية والاجتماعية، أصبح هذا النموذج يعتمد بشكل متزايد على عمال الرعاية المنزلية، الذين غالبيتهم من النساء الوافدات.
يكشف التقرير أن هؤلاء العمال مستثنون من الحماية التي يوفرها قانون العمل، ويخضعون لنظام الكفالة الذي يضعهم تحت رحمة أصحاب العمل. هذا النظام الاستغلالي، الذي لا يزال قائمًا رغم بعض التعديلات، يجعل هؤلاء العمال عرضة بشكل كبير لسوء المعاملة، والعمل لساعات طويلة دون تعويض، وعدم القدرة على ترك العمل أو تغيير صاحب العمل. هذا الوضع يتعارض بشكل صارخ مع مبادئ حقوق الإنسان الأساسية ويتطلب إلغاء نظام الكفالة فورًا ومنح هؤلاء العمال الحماية التي يكفلها القانون.
على الرغم من الأموال الهائلة التي استثمرت في مشاريع البنية التحتية، يكشف تقرير ماهلر عن فشل "السعودية" في تحقيق مبدأ الشمول والتصميم الشامل. فمثلاً، مترو الرياض الجديد، الذي يتم الترويج له كرمز للحداثة، يفتقر إلى العديد من ميزات إمكانية الوصول الضرورية. فقد لاحظت الخبيرة المستقلة محدودية عدد المصاعد، وعدم وجود إخطار صوتي بأرقام الطوابق، واستخدام خرائط بخطوط صغيرة يصعب قراءتها. هذه التفاصيل، التي تبدو بسيطة، تعكس تجاهلًا منهجيًا لاحتياجات كبار السن، وتثبت أن التخطيط الحضري لا يضع هذه الفئة في الاعتبار منذ البداية.
في مشاريع الإسكان، تتفاقم المشكلة. ففي مشروع ضاحية الفرسان، الذي زارته الخبيرة، لاحظت أن إمكانية الوصول الكامل ليست معممة تلقائيًا، بل تظل متاحة فقط عند الطلب. هذا النهج يلقي بالمسؤولية على كبار السن لتحديد احتياجاتهم بدلًا من توفير بيئة شاملة تلقائيًا، وهو ما يعد انتهاكًا لمبدأ التصميم الشامل المنصوص عليه في اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة. هذا الفشل في دمج مبادئ الشمول في المشاريع الكبرى يظهر أن الحكومة لا تزال تنظر إلى احتياجات كبار السن كاستثناءات وليست كحقوق أساسية يجب الوفاء بها.
من أكثر المآخذ التي سجلتها الخبيرة المستقلة ماهلر هو عدم قدرتها على إيجاد مجموعة واسعة من منظمات المجتمع المدني المستقلة العاملة في مجال حقوق كبار السن. هذا الغياب الصارخ للمجتمع المدني الفاعل يعكس مدى التقييد المفروض على حرية التعبير والتنظيم في "السعودية". فبدون وجود منظمات مستقلة، يصبح من المستحيل تقريبًا رصد الانتهاكات، أو الدفاع عن حقوق الفئات المهمشة، أو حتى تقديم خدمات تكميلية للخدمات الحكومية.
هذا القمع للمجتمع المدني يمنع الخبراء الدوليين من الحصول على فهم شامل للوضع من منظور قائم على الحقوق، ويجبرهم على الاعتماد بشكل كبير على الرواية الرسمية للحكومة. هذا الوضع لا يمنح كبار السن أي وسيلة حقيقية للمساءلة، ويزيد من صعوبة رصد الانتهاكات المحتملة لحقوقهم، ويؤكد على أن السلطات لا ترغب في وجود أي رقابة مستقلة على أدائها.
يخلُص تقرير الخبيرة المستقلة إلى أن "السعودية" لا تزال بعيدة عن تحقيق الحماية الكاملة لحقوق كبار السن. على الرغم من بعض الخطوات الإيجابية التي تمت الإشارة إليها في التقرير الأصلي، فإن التحديات الهيكلية والقانونية والمجتمعية التي أبرزها هذا التقرير تؤكد أن حقوق هذه الفئة لا تزال مهمشة بشكل كبير. التوصيات التي قدمتها الخبيرة المستقلة، مثل إلغاء نظام الكفالة، وتوسيع نطاق الضمان الاجتماعي ليشمل جميع المقيمين، وإدراج السن كأساس للتمييز المحظور، تمثل اختبارًا حقيقيًا لمدى التزام "السعودية" بتحقيق تقدم حقيقي في مجال حقوق الإنسان، وليس مجرد تقديم وعود جوفاء. هذا التقرير يكشف عن تناقض صارخ بين الطموحات المعلنة وواقع حقوق الإنسان على الأرض، ويؤكد أن الطريق لا يزال طويلًا وشائكًا.
ارسال التعليق