كيف تهدد القومية عروش العائلات الحاكمة في الخليج؟
يظهر في بعض الأحيان أن النعمة في ظاهرها قد تكون نقمة في واقعها، أو هكذا اكتشفت دول الخليج العربية. وعلى الرغم من أن الله قد وهبها كميات هائلة من الهيدروكربونات، إلا أن دول الخليج العربية قد أصبحت تشعر باللعنة مع معرفة أن العالم لن يدفع أسعارا أعلى مجددا لأجل نفطها وغازها. ومن أجل تلبية ثمن الحداثة وإصلاح اقتصاداتها، شرعت دول الخليج في تنفيذ مشاريع واسعة لتعزيز الهوية الوطنية تهدف إلى تحويل قبائل وطوائف البلاد إلى مواطنين منتجين، منافسين عالميا، مخلصين للدولة. ولكن في حين أن مثل هذه الخطط قد وضعت للنجاح على الورق، فقد يكون الواقع مختلفا تماما؛ حيث يؤدي ضعف التجاوب المحلي إلى إعاقة هذه المشاريع الطموحة لإقناع المواطنين بأن يصبحوا مواطنين منتجين اقتصاديا، مما يترك خليطا من الإصلاحات الجزئية مع النزعة القومية يهدد بإثارة الصراعات.
الإنسان السوفييتي الجديدبالطبع، هناك سابقة لمشاريع تحويلية بالنسبة للهوية الوطنية، مثل الاتحاد السوفييتي في مراحله المبكرة. وهناك، كان إرث الغزو الإمبراطوري حاضرا، وكذلك العادات التي ولدت على مدى قرون من الإقطاع، وكان رعايا القيصر السابقين بالكاد يصلحون كمواد بشرية أولية تصلح لبناء النظام الشيوعي الجديد. وردا على ذلك، حاول السوفييت فرض هوية ثقافية ووطنية واقتصادية على شعوب الاتحاد الشاسع، اتحاد الرجل السوفييتي الجديد.
وبدلا من نجاح الرجل السوفييتي الجديد، الذي ينكر الذات ويخدم الاشتراكية، ظهر الـ"هومو سوفييت"، وهو إنسام مشرّب بصفات عكس تلك التي سعت موسكو إلى غرسها في مواطنيها. ولم يتمكن هذا النموذج من أن يصبح المحرك الاقتصادي لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية، أو أن ينهي موجة القومية التي نشأت خلال حقبة الشفافية "الغلاسنوست" التي أعلنها "ميشيل جورباتشوف" مما أدى في النهاية إلى تفكك الاتحاد السوفييتي نفسه.
وكان أحد أسباب فشل السوفييت في إنشاء شخص جديد ينبع من نهجهم لبناء الهوية من أعلى إلى أسفل، وهو نهج لم يكتسب أي دعم على المستوى الشعبي. وسواء في "تبليسي" أو "طشقند" أو "تومسك"، تم إجبار المواطنين السوفييت على اللغات والطقوس والأبطال والعادات الاقتصادية التي يدعمها المخططون النائيون الروس بدلا من الحصول على فرصة لإدراج هوياتهم الخاصة في هذا الوجه السوفييتي الجديد. علاوة على ذلك، بينما امتدح السوفييت العمل الجاد والعادات الاقتصادية الإنتاجية، فشلوا بشكل أساسي في هيكلة اقتصادهم لتحفيز هذا التوجه من أسفل إلى أعلى. وعندما ظهرت الدفعة الجيوسياسية في نهاية الحرب الباردة، لم يكن هناك رجل سوفييتي جديد يمكن العثور عليه، بصرف النظر عن النماذج الموجودة في ملصقات الدعاية.
الإنسان العربي الخليجي الجديدواليوم، يواجه حكام دول الخليج العربية مشكلة مماثلة فيما يتعلق بتبني الهوية الجديدة. وأثناء شروعهم في استراتيجية الهوية الوطنية من أعلى إلى أسفل، يجب عليهم إيجاد طرق لتحويل رعاياهم من مشاركين سلبيين إلى مواطنين نشطين ومنتجين. لكن في حين من الوارد أن تحقق هذه الدول نجاحا في إعادة هيكلة الحياة الاقتصادية لسكانهم، فمن المرجح أن تتلاشى آمالهم في إبقاء شعوبهم غير سياسيين وموالين دون شرط.
وتتمتع الدول الخليجية الـ6 في مجلس التعاون الخليجي المتوتر بتاريخ وهويات محلية متباينة. ويعود عمر سلطنة عمان إلى قرون من الزمان، لكن حدودها الحديثة لم تتشكل إلا بعد عدة حروب دامية في الخمسينيات والستينيات. ولا تزال البحريم والكويت وقطر والإمارات متأثرة بشكل كبير بالهياكل القبلية التي وجدها البريطانيون، وأعادوا ضبطها في القرن التاسع عشر وتحكم السعودية مناطق غالبا ما تتشابه في نفس الصفات مع جيرانها، أكثر مما تتشاركه مع العاصمة الرياض.
ولبناء دول قومية حديثة، تختبر دول مجلس التعاون الخليجي مشاريع الهوية الوطنية. وعلى الورق، فإنشاء خليج عربي جديد له مزايا، مثلما كان لنموذج "الرجل السوفييتي الجديد" مزاياه الافتراضية. ولكن في الممارسة العملية، ستظل العقليات القديمة دائما تحت السطح على استعداد لإعادة تأكيد نفسها.
وتنتج هذه الديناميات تناقضات واضحة؛ ففي حين يسن الحكام في إحدى دول الخليج إصلاحات لتغيير الاقتصاد هيكليا، فإنهم يقدمون يقومون بإجراء آخر لتقويض ذلك الإصلاح في الوقت نفسه. وإذا أردنا ذكر أدلة على ذلك، فلن ننظر إلى أبعد من تطبيق الإمارات للضرائب على القيمة المضافة تزامنا مع زيادة أجور القطاع العام في عام 2018، وهناك أيضا إصلاحات السعودية الخاصة بتنفيذ الضرائب تزامنا مع زيادة الدعم، وكذلك التأخير في تطبيق ضريبة القيمة المضافة في عمان، وهي قضية تثير قلق السلطنة بشكل خاص، بالنظر إلى حاجتها الملحة للإصلاح.
وفي جميع أنحاء الخليج العربي، نفذت الدول تغييرات هيكلية لتحسين الإنتاجية، وتقليل الاعتماد على القطاع العام كوسيلة للتوظيف، وزيادة إيرادات الدولة إلى ما وراء الهيدروكربونات، لكنها قامت بالعكس عبر تقويض الإصلاحات بامتيازات ودعم جديدين. وقد أخرت الدول التي تخشى من رد الفعل العام ضد إعادة الهيكلة الاقتصادية الضرورية والمؤلمة أو عكست أو ألغت الإصلاحات المزمعة. ونظرا لعدم قدرتهم على إيجاد مسارات سياسية لنزع فتيل المقاومة العامة، لجأت دول الخليج بدلا من ذلك إلى إعانات مجربة ومختبرة للحفاظ على العقود الاجتماعية القائمة، والتي تغرس في السكان الاعتماد على الدولة، مما يقلل من فرص قدرتهم على المشاركة في أي تحول اقتصادي في بلادهم. ولم تقم أي دولة خليجية بعد بكسر هذا النمط، خاصة في وقت أدى فيه ارتفاع أسعار النفط نسبيا إلى تقليل الحاجة الفورية إلى الإصلاح الهيكلي.
الالتفاف حول العلملكن هذا لا يعني أن مشاريع الهوية الوطنية لن تحقق أي تقدم. وفي الواقع، تغذي الأزمات داخل المنطقة وخارجها مشاعر قومية غير مسبوقة. وتسبب الحصار الذي قادته السعودية ضد قطر في التفاف مواطني البلاد حول أسرة "آل ثاني" الملكية، مع ظهور رموز وأبطال قوميين جدد. وفي أماكن أخرى، وحدت الحرب في اليمن العديد من الإماراتيين حول أعلام البلاد، في حين قد منحت حرب الرياض الباردة ضد طهران السعوديين خصما وطنيا ليقاوموه. وقد ارتبطت كل هذه الأحداث بسياسات وطنية متعمدة أكدت على الهويات الوطنية الفردية؛ حيث ينظر كل من القطريين والإماراتيين والسعوديين والعمانيين والكويتيين والبحرينيين إلى أنفسهم بعين الفردية أكثر فأكثر. وكان هذا حاضرا في كأس آسيا الأخيرة في الإمارات، حيث ظهرت آثار الأزمة الخليجية في المدرجات. وقد دعم العمانيون والكويتيون دولة قطر، حيث منعت السلطات الإماراتية معظم القطريين من حضور البطولة، في حين ألقى المشجعون الإماراتيون الأحذية على الفريق القطري، الذي أطاح بالمنتخب الإماراتي، وقبله السعودي، في طريقه للفوز بالبطولة.
ولم يعتد حكام الخليج على مثل هذه الحماسة الوطنية، ولكن مع تطور هذا الاتجاه الجديد، سوف يطور القوميون في كل دولة أولوياتهم الخاصة، ويشوهون خصومهم، ويقررون بأنفسهم ما الذي يشكل الشرف الوطني وما الذي لا يفعل. وسيجبر هذا بدوره حكام الخليج على التفكير في مواطنيهم بطرق جديدة. وكان موضوع الحرب والسلام منذ فترة طويلة من اختصاص الديوان الملكي، أو المجالس المختارة من الأسر المالكة، أو الملك نفسه، فقد يكون لدى القوميين أفكار أخرى. وفي هذا الصدد، قد يثير القوميون صراعا حول قضايا قد يفضل حكامهم تجنبها، مثل الصراع الأرمني الأذربيجاني، الذي كان يبدو مستعصيا، والذي تغلب فيه التيار القومي المتصاعد على الهوية السوفييتية الموحدة، ما أشعل حربا أهلية في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات بين الجمهوريتين السوفيتيتين. وعلى العكس من ذلك، فقد يؤدي أيضا إلى تغذية الانعزالية، وإجبار القادة على تجنب تقديم مبادرات استراتيجية لاسترضاء القوميين. وقد تقوض القومية أيضا الاتفاقات التي ربما يعقدها حكامهم مع خصوم تكرهها الشعوب، وقد يطالب القوميون بتقديم الدعم والتضامن مع دول يفضل الحكام تجنبها. وباختصار، فإن كل ذلك يعني أن هذه الموجة الجديدة من القومية من المرجح أن تقوض الخيارات الاستراتيجية للعائلات الحاكمة.
ومع ذلك، يلوح في الأفق قلق أكبر، وهو ذروة الطلب على النفط. وعندما يأتي ذلك، لن تتمكن صناديق الثروة السيادية ولا الهيدروكربونات من سداد الفواتير. فكيف سيكون رد فعل القوميين ذلك اليوم؟ هل سيتجمعون ويتكاتفون ويختارون التقشف، كما تأمل العائلات الملكية؟ أم هل يلومون حكامهم في نوبة من الغضب الشعبوي، المغمور بعمود بشعور وطني يتقاطع مع مظالم الطائفة والعمر والجنس والعرق؟ لا يزال هذا اليوم بعيد المنال، لكنه قادم لا محالة.
ارسال التعليق