كيف يتعايش الناس مع الاستبداد السياسي
الاستبداد بلوى كبرى يبتلى بها العديد من المجتمعات، حيث لا تزال ترزح قلة من المجتمعات في وحل الاستبداد ، ولم تنتقل إلى واحة ورحابة العدالة. فالاستبداد هو ارث من الماضي، فالمجتمعات تتوق إلى أن تحكم نفسها بنفسها وتملك زمام أمورها دون وجود شخص يحكمها بهواه وعلى مزاجه، أو حاكم أتى إلى كرسي السلطة عبر الوراثة كما هو الحال في السعودية. في المقابل نجد أن معظم شعوب الأرض بعد كفاح مرير نالت حريتها وحكمت نفسها وفق توافق شعبي على آليه معينة للحكم وقوانين لا تحيد عنها مهما حدث. وتكون فيها السيادة للقانون الذي يحتكم له الناس عند تضارب مصالحهم وأهوائهم فيطيعون ما توافقوا عليه، كما هو الحال في معظم مجتمعات الأرض التي تختلف في تطبيق أشكال العدالة وانتظام السلطة. أما بعض المجتمعات لاتزال تذوق ويلات الاستبداد. والسؤال كما هو العنوان موضوع، كيف يتعايش الناس مع الاستبداد؟
التبرير: بعض الناس، يحاول تبرير سلوك السلطة، حتى لو كان القرار ضده، مثل كثر الرسوم والضرائب، فهو يرى أن الدولة محقه فيما تفعل فهي "أبخص" وأعرف بما هو صحيح وما هو خطأ. ويبدأ في سلسلة من التبريرات التي ربما لا تخطر على بال الطاغية نفسه. وهو حال معظم أعوان الاستبداد. فتجد الذي يصف نفسه بعالم دين، ينتقي لك من القران الكريم والسنة النبوية ما يبرر سلوك وقرارات النظام المستبد، وما أكثر هؤلاء القوم وهم لا يحتاجون إلى إشارة. ومنهم مدعي العلم والمعرفة، فهو يكذب أكثر مما يتنفس من خلال تبريره وتزويره للحقائق وهؤلاء في الغالب يمتهنون العمل الإعلامي فهذا أكل عيشهم هو الكذب والاستمرار في الكذب ولا يعجزهم شيء في تلفيقه وتدليس الأخبار وقلب الحقائق والأحداث، وهم قوم لا يخجلون من انكشاف بؤس كذبهم وتناقضهم فيما يقولون لأنها صنعتهم أجبلتهم على العيش على الكذب وعدم استمراء هذا السلوك المقيت والخجل منه. ومن أكثر من ينتهج سلوك التبرير هم الأشخاص التافهون "الإمعة" الذي لا رأي له في أي شيء غير الابداع في تزيف مبررات لسلوك السلطة.
التجاهل: شريحة أخرى هي تتجاهل الواقع السياسي وتحاول أن تفصل نفسها عما يحدث مهما حدث، وتنشغل بعوالمها الخاصة، كانت رياضة، أم معرفة، أم علم، أم سياحة، أو عمل وتجارة، إلى أخره من العوالم التي تجعل الشخص ينغمس فيها ويهرب من مواجهه الحقيقة والوقوف أمامها. وربما يكتسب بعض الناس هذا السمة مع الوقت كعلاج وقائي بسبب تبعات الاكتراث بالعمل السياسي والتجارب السابقه له أو لآخرين من محيطه. وهي نتيجة لحالة الشعور باليأس وفقدان الأمل، وهؤلاء يشعرون ويؤمنون أنه لا أمل من إصلاح الحال، فلهذا هو يعيش بعباره "طنش تعش تنتعش". والتجاهل ينم ويفصح عن وعي بطبيعة الاستبداد، لكنه وعي خامل، وكامن في عقل وضمير الشخص فهو يعلم أن الواقع السياسي محبط ولا أمل من إصلاحية لهذا فإظهار عدم الاكتراث هو الحل على الأقل لو مرحلياً.
الامتعاض: وهي حالة من الشعور بالاشمئزاز من الاستبداد وتصرفات الحاكم وعدم قناعته بمشاريع وحركات السلطة. فهو يعلم في قرارة نفسه ويحدثها أن ما يحدث خطأ وجريمة. والامتعاض أيضا حالة مشاعرية يتحدث بها صاحبها مع الدائرة الأصغر عن بؤس الوضع السياسي ومدى فشله، وهو لا يستريح إذا لم يظهر هذا الامتعاض، وربما تكون فسحته في الحياة هي البحث عن أشخاص وجلساء يشاركونه هذا الامتعاض على فهم تصرفات السلطة ونقدها، لأن الإنسان يفرح بمن هو مثله ويشاركه نفس أراءه وأفكاره وخصوصاً في شأن شائك وأساسي مثل السياسة في بلد مستبد. الامتعاض هو أيضا محاولة فهم لماذا يحدث هذا بنا؟ وماذا يريد الطاغية من كل هذا، وهي بحق محاولات لمعرفة اتجاهات السلطة في الاقتصاد والسياسة والحياة العامة. والامتعاض يرتفع وتيرته بارتفاع سقف الحريات في الوطن، فمتى توفرت نسمات من الأمان والحرية، تجد هذه الأصوات دروباً ومسارات تصدح من خلالها عما يكمن في عقولها وصدروها.
المعارضة: هي الجهر بالحق في وجه الطاغية وأعوانه، وفضح سلوكها وفسادها بالوسائل المدنية المتاحة. والمعارضة سلوك ينم عن وعي أصيل بالحقوق والواجبات، فالمعارضة ترى أن الاستبداد جريمة في مصادرتها لحريات الناس وحقوقهم وأموالهم، فهي تعلم أن هذا السلوك خارج عن القانون وحتى عن السلوك الرشيد للإنسان الحصيف والعاقل. فتكميم أفواه المجتمع وقمعه هو سلوك رجعي ومتخلف وينم عن حكومة لا ترى قيمة للمجتمع بكافة تنوعاته وأطيافه، وترى أنها الحق والحق المطلق وأن سلوكها هو السلوك القويم، وأن على الجميع الخضوع لرغباتها والامتثال لها وإلا فأنت ضدها. لهذا يخرج من المجتمع شريحة ممن يقررون صد هذا البؤس وتنوير المجتمع ومقاومة سلوكيات الاستبداد ومحاولة الحد من اثاره وإحياء الأمل والثقة بالناس، و أن الاستبداد هو حالة عابرة يجب مقاومتها ومعارضتها ورصد كل سلوك قمعي لها وفضح ممارستها في حق المجتمع. لأن المستبد يخشى الفضيحة، ويعيش في رعب مستمر، لهذا ترعبه الأصوات التي تعارضه. لهذا المعارضة هي سلوك أصيل ونبيل في المجتمعات التي يحدث فيها الاستبداد.
وقيمنا العربية والإسلامية والإنسانية تحض على الدفاع عن المستضعفين والمقموعين، فالتاريخ يزخر بأسماء المقاومين والمناضلين، ويتجاهل أسماء الطغاة. ولا حرج على أي أحد في تحديد الموقف المناسب له، لكن المهم ألا يكون الإنسان عوناً على أخيه الإنسان بالاصطفاف مع الظالم على أخيه الإنسان، لأنه بهذه الطريقة يتفشى هذا المرض بين المجتمع. فالمستبد لوحدة هو ضعيف جبان، لكن يحاول أن يجد الفئات الممسوخة ذهنياً وسلوكياً فيستعين بها على قتل وتعذيب وقمع المواطنين. وفي أخر المطاف يتبرأ الطاغية منهم وأنهم خارجون عن القانون. لأنه جبان، ولنا في حادثة اغتيال جمال خاشقجي المروعة عبره. ومع هذا تجد من يبررها، وتجد من يتجاهلها، وتجد من يمتعض منها وتجد من يعارضها ويستنكرها ويلاحق المستبد ويحاول محاسبته وتدفيعه ثمن هذه الجريمة.
ارسال التعليق