حدث وتحليل
في دلالات تعيين الشيخ "صالح الفوزان" مفتيا عاما ورئيسا لهيئة كبار العلماء في "المملكة"
[عبد الرحمن الهاشمي]
بقلم عبد الرحمن الهاشمي
يبدو أن تعيين الشيخ صالح الفوزان مفتيا عاما للمملكة ورئيسا لهيئة كبار العلماء ليس مجرد خطوة دينية أو إدارية، بل هو قرار سياسي بامتياز، يعرّي حدود ما يُسمى بمشروع “الانفتاح” الذي روّج له محمد بن سلمان منذ سنوات تحت لافتة “التحديث” و“رؤية 2030”. ف"المملكة" التي قدّمت نفسها كمنفتحة على العالم مع الأمير محمد بن سلمان، تواصل في العمق تكريس بنيتها الوهابية التقليدية، لتثبت أن ما يجري ليس انفتاحا في الرؤية الدينية و على العالم، بل هو شكل جديد من الترويض والإلهاء، فيما تبقى المؤسسة الدينية بوظيفتها الأصلية: حارس البنية القديمة وموزّع الفتاوى التي تؤبّد الجهل وتحرّم أي تعبير من تعبيرات الإرادة الشعبية.
من يتأمل سجلّ فتاوى الشيخ "الفوزان" المعيّن يدرك أن الحديث عن انفتاح ديني أو إصلاح فكري ليس سوى مسرحية مكشوفة. فالرجل الذي يحرّم تهنئة المسلمين بعضهم برأس السنة الهجرية، ويرى الاحتفال بالمولد النبوي بدعة، وقراءة “البردة” شركا، وتعليم الفلسفة ضلالا، وقيادة المرأة محرّمة، والقول بدوران الأرض كفرا... هو التعبير الأكثر فضائحية عن العقل الوهابي في صيغته المعادية للعقل وللعلم ولديناميات العصر. إن تعيين مثل هذا الرجل في أعلى منصب ديني رسمي يعني ببساطة أن الدولة السعودية لم تتخلَّ عن الوهابية، بل أعادت تثبيتها في موقعها الوظيفي القديم كأداة سلطوية تضبط الداخل وتخدم الخارج.
فالانفتاح الذي يروّج له محمد بن سلمان هو انفتاح على الترفيه، على الضجيج الاستهلاكي كواجهة، وعلى صناعة فراغ روحي محكوم بالضبط الأمني. في المقابل، يُعاد إحياء الخطاب الديني المتحجر ليؤدي وظيفته القديمة: تنفير الناس من الدين الأصيل، وتحويل الإسلام إلى منظومة فتاوى طاردة، ثم استخدامه غطاء لمصادرة أي وعي نقدي. إنها قسمة خبيثة..انفتاح على سُلّم التمييع الأخلاقي والاجتماعي في الداخل، وتشدد ديني مصطنع يُستبقى ليقدَّم إلى الخارج الإسلامي كرمز “للهوية” يضمن بها النظام مكانته عربيا وإسلاميا، وهكذا تترسخ السلفية الوهابية كحاجة سياسية حيوية، دون أن نغفل أنها تمثل حاجة أيضا لقوى الهيمنة العالمية.
إن القراءة السياسية للقرار لا تكتمل إلا بالعودة إلى اعتراف الأمير محمد بن سلمان نفسه عام 2018، حين قال صراحة إن بلاده “نشرت الوهابية بطلب من حلفائها الغربيين لمواجهة الاتحاد السوفييتي”. هذا الاعتراف يكفي لفهم دلالات التعيين الجديد، فالوهابية لم تكن يوما مشروعا روحانيا نابعا من الداخل، بل أداة تعبئة وتحشيد في خدمة الأطماع الدولية.
واليوم، بعد “حرب 12 يوما” وما خلّفته من انكشاف في موازين الإقليم، يُمثّل تعيين الفوزان استمرارا لتشغيل الوهابية كأداةٍ من أدوات الضبط والسيطرة في لحظةٍ يتصاعد فيها وعي المقاومة وتتهاوى فيها السرديات التي صاغتها الهيمنة لعقود. فالمسألة لا صلة لها بتديّنٍ أو تجديدٍ ديني، بل بترميم جهازٍ أيديولوجيٍّ هرِم يُستدعى كلّما شعرت السلطة بارتجاج صورتها أو ببوادر وعيٍ مغاير. فالمطلوب إعادةُ إحياء خطاب يجرّم التفكير ويشيطن الاختلاف ويعيد المجتمع إلى نقطة الصفر في الطاعة. فالفوزان بخطابه التحريمي الجامد ليس إلا ضمانة لاستمرار الإسلام الرسمي خاضعا، منزوع الروح والعقل، يُدار كما تُدار الثروات والقرارات السيادية.
لكن الأخطر أن هذا القرار لا يبدو سعوديا خالصا. فالموقع الذي تحتله المؤسسة الدينية الوهابية في خريطة الإسلام السني العالمي ليس شأنا محليّا، بل أداة ضمن هندسة أوسع لإعادة إنتاج التبعية الثقافية والسياسية في العالم الإسلامي. بعبارة أوضح؛ إبقاء الوهابية حيّة ومُمأسسة هو قرار دولي. لأن هذه العقيدة، بتكفيرها الآخرين وعدائها للعقل، تضمن انقسام الأمة، وتحول دون تشكّل أي خطاب وحدوي مقاوم. إنها جهاز تفتيت مذهبي فعّال، اختُبر نجاحه على امتداد جغرافية العالم الإسلامي، وها هو يُستعاد في زمن التحولات الكبرى.
تعيين الفوزان بهذا المعنى هو تثبيت لهذا الخيار الدولي؛ أن تبقى الوهابية فاعلة، ولو بأشكال جديدة، لتؤدي وظيفة مزدوجة؛ داخلية ترويضية وخارجية تفتيتية فتنوية. داخليا، تُستخدم لإنتاج “إسلام مطيع ” يبرّر القرارات - بما فيها التطبيع- ويُشيطن المعترضين ويمنع التفكير النقدي، بينما يُفتح الباب في المقابل أمام ثقافة استهلاكية تُفرغ الانفتاح من أي مضمون قيمي أو وطني. وخارجيا، تُستعمل الوهابية كواجهة “سنية” ضد خصوم "السعودية"، لتبرير سياسات الهيمنة وإعادة إنتاج الانقسام المذهبي كلما اقتضت الحاجة.
في هذا السياق، يظهر أن “مشروع الانفتاح” لم يكن إلا إعادة تموضع للنظام، لا قطيعة مع ماضيه. فالتحديث هنا لا يعني إصلاحا فكريا أو نهضة دينية، بل انتقالا من الوهابية الفقهية إلى الوهابية الاستعراضية؛ الأولى توسع دائرة المحرّم باسم الدين، والثانية تحلل التمييع باسم الترفيه والترويح. كلاهما، في النهاية، يخدم الغاية ذاتها؛ قطع الطريق على الوعي، سواء غُطي بعباءة النص أو قناع الحداثة. ولذلك، فإن هناك خطا مستقيما يربط بين حفلات “الهيئة العامة للترفيه” وخطب الفوزان، كلاهما يصادر الإنسان ويقتل الروح النقدية فيه، أحدهما باسم “الطاعة” والآخر باسم “المتعة”.
بهذا المعنى، فإن القرار لا يكشف فقط عن نكوص ديني، بل عن انكشاف سياسي. إنه يعبّر عن استمرار البنية العميقة التي جعلت من الوهابية أداة في يد السلطة، ومن السلطة أداة في يد الهيمنة. وما يتبدى كمجرّد تعيينٍ ديني هو في جوهره تأكيد لاستمرار الدور القديم: أن تظل "السعودية" قاعدة أيديولوجية لتحريف الوعي في العالم الإسلامي، وأن يُترك للغرب أن يحدد وظيفة الدين وموقعه.
ويبقى أن التاريخ لا يُدار بالفتاوى، ولا تُحكم حركة الوعي بقرار سلطوي. إن تعيين الفوزان ليس انتصارا للوهابية بل إعلانا عن استمرار الحاجة الأميركية والإسرائيلية إليها كأداة لإبقاء الإسلام منقسما والوعي مُزيفا. لكن هذه الأداة، مهما جرى النفخ في جمرها، تفقد قدرتها على الإقناع في مجتمعات باتت الأجيال الصاعدة فيها تدرك زيفها. فكما انتهى الإكليروس المسيحي حين استُهلكت وظيفته، ستؤول الوهابية إلى المصير ذاته، عبءٌ على السلطة التي تستعملها، ودليل على خوفها من وعي يتقدّم رغم كلّ محاولات تدجينه.
ولأننا مقبلون على مفصلٍ حاسمٍ من الصراع في منطقتنا، فسيرى العالم الإسلامي مواقف الفوزان تتقاطع -كما هو متوقع - مع قوى الهيمنة لا في صف الأمة. سيتحدث بلسان “الشرع” ليبرّر ما يخدم السياسة، ويصمت حيث يجب أن يُقال الحق. وستنكشف، مرةً أخرى، وظيفة الوهابية على مفرق المنعطفات ولحظات التحوّل الكبرى؛ أن تكون سلاحا في يد العدو. لكنّ هذا الدور، مهما طال، لن يغيّر مسار التاريخ؛ فوعي المنطقة يتقدّم، والوهابية التي شُغّلت لخدمة الأجنبي ستجد نفسها، كما وجد الإكليروس القرسطوي نفسه، خارج الزمن الذي وُلدت لتعطيل ديناميته وتشويه روحه وقلب موازينه.
ارسال التعليق