هل تعلم
وهم السكن في السعودية: طفرة إسكانية تُقصي على أمال المواطنين
في خضمّ الزخم الهائل الذي تُحدثه "رؤية 2030"، وتحديداً في ملف الإسكان الذي وُصف بأنه أحد "الوعود الأكثر وضوحاً" لهذه الخطة، تبرز حقيقة قاسية تتناقض مع الصورة الوردية التي يُروَّج لها. فبينما تشهد "السعودية" "واحدة من أكبر حملات البناء الإسكاني في تاريخها"، حيث تنهض أحياء كاملة بتمويل حكومي ودعم مطورين "طموحين" في الرياض وجدة والمنطقة الشرقية، تُشير التحليلات المستقلة إلى أن هذه الطفرة العملاقة تهدد بـ"ترك المواطنين خلف الركب". إن الهدف المعلن لرفع نسبة تملك المنازل إلى 70%، ورغم نبله الظاهري، يبدو كحلم بعيد المنال لقطاعات واسعة من المجتمع السعودي، لا سيما فئة الشباب والأسر ذات الدخل المتوسط.
يكشف تقرير تحليلي معمق، نشرته مجلة MEED، عن "الحقيقة غير المريحة" التي تؤكد أن المنازل تُبنى بوتيرة غير مسبوقة، ومع ذلك "لا يستطيع العديد من السعوديين تحمل تكلفتها". هذا التناقض الصارخ يُلقي بظلال من الشك على مدى شمولية هذه المشاريع وقدرتها على تحقيق العدالة الاجتماعية المنشودة. فالنظام يتباهى بـ "عرض الحياة السعودية الحديثة"، لكنه يتجاهل، أو بالأحرى يقصي، المواطن العادي من الاستمتاع بثمرات هذا التطور.
الأزمة، بحسب MEED، ليست في نقص الشهية أو الطلب؛ فالعائلات السعودية لطالما أعطت قيمة عالية لامتلاك منزل، ومع وجود تركيبة سكانية شابة، فإن الطلب يتزايد. لكن المشكلة تكمن في أن "القدرة على تحمل التكاليف تتراجع". ولإثبات ذلك، ينقل التقرير أرقاماً لا تقبل الجدل عن تدهور مستمر: فوفقاً لمؤسسة "نايت فرانك" (Knight Frank)، انخفض عدد الأسر التي تخطط لشراء منزل بشكل حاد من 40% في عام 2023 إلى 29% في عام 2024. هذا الانخفاض الحاد هو دليل ملموس على أن الطبقة المتوسطة بدأت تفقد الأمل في إمكانية تحقيق هذا الحلم.
السبب الجوهري لهذا التناقض هو التحوّل في بوصلة السوق. إذ يشير التقرار بوضوح إلى أن "معظم المشاريع الإسكانية الحالية مُصممة للفئة العليا"، حيث أصبحت الفلل والشقق التي تتراوح أسعارها بين 2 مليون و 4 ملايين ريال سعودي (ما يعادل 533 ألف إلى 1.07 مليون دولار) أمراً "شائعاً". هذا التوجه يعني أن المطورين، الذين يسعون "بشكل مفهوم" لتحقيق هوامش ربح أعلى، يستثمرون في "منازل أكبر بتشطيبات فاخرة"، وهو ما "يستثني المجموعة التي تسعى الحكومة بشدة لدعمها: الأسر الشابة ذات الدخل المتوسط". وتشير الاستطلاعات التي استند إليها التقرير إلى أن ثلثي الأسر السعودية لا يمكنها تحمل تكلفة تزيد عن 1.2 مليون ريال، مما يؤكد أن السوق يعمل في اتجاه معاكس للاحتياجات الفعلية لعموم المواطنين.
وتتعمق الأزمة بتأثير عوامل جانبية مدمرة. فالنظام، عبر فشله في ضبط السوق، سمح لـ"الشراء المضارب" بدفع تكاليف الأراضي إلى مستويات "بعيدة عن متناول الأيدي"، وهي تكاليف تنتقل "حتماً" إلى المشترين النهائيين. وإضافة إلى ذلك، تُساهم العولمة الشكلية للمشاريع في تفاقم المشكلة؛ إذ أن التصاميم المستوردة من المطورين الدوليين، والتي تظهر في شكل "أبراج ومجمعات سكنية مسورة"، تبدو "مخصصة للمستثمرين العالميين أو الوافدين"، ولا تعكس بالضرورة "الحياة الأسرية المحلية أو مستويات الدخل"، على حد تعبير التقرير. حتى الخدمات الأساسية كالبنية التحتية، التي تشمل المدارس والمستشفيات والطرق، تُضاف تكاليفها الضخمة على سعر البيع، مما يجعل المشتري المحلي هو من "يشعر بالضيق".
كما أن السياسات النقدية تُشكل عقبة إضافية على كاهل المواطن، حيث أدى ربط البنك المركزي السعودي بالتحركات الأمريكية لأسعار الفائدة إلى "صعوبات في التمويل" وارتفاع في أسعار الرهن العقاري. ويؤكد تقرير MEED أن ما كان "دفعة شهرية معقولة قبل عامين أصبح الآن بعيد المنال بالنسبة للعديد من الأسر الشابة".
وإذا كان هناك من خطر يهدد مستقبل المواطن في موطنه، فهو فتح سوق العقار "للمستثمرين الأجانب". فرغم اعتراف التقرير بأن هذا يجلب رأس المال ويدعم التنويع، فإنه يُحذّر بلهجة واضحة: إذا لم يتم ضمان "توفير العرض للمواطنين أولاً"، فإن الخطر "واضح"، وهو أن "السكان المحليين قد يتم استبعادهم من سوق الإسكان الخاص بهم بسبب ارتفاع الأسعار".
ختاماً، يشير التقرير إلى أن الحكومة "تدرك هذه المشكلات" وتطرح "خططاً وأدوات تمويل"، لكنه يؤكد أن "هناك حاجة إلى المزيد". ويضع التقرير أربع توصيات واضحة ومباشرة تشكل في جوهرها نقداً لاذعاً للمسار الحالي، أبرزها ضرورة "مواءمة المنازل الجديدة مع مستويات الدخل الفعلية، وليس فقط أهداف المستثمرين"، و"الحد من المضاربة"، بالإضافة إلى "فتح السوق للأجانب تدريجياً، بعد تلبية الاحتياجات المحلية". إن هذا التباين بين الطموح الرسمي والتطبيق الفعلي يهدد بتحويل "التقدم والتحديث" المزعوم إلى "جيوب حصرية" بدلاً من "مجتمعات شاملة"، وهو ما يُبقي حلم تملك المنزل رهينة لـ "التحدي الذي يواجه المملكة لربط المال والطلب والطموح". إنها طفرة بنيان لا تترجم إلى طفرة عيش كريم لكل أبناء الوطن.
ارسال التعليق