جرائم وانتهاكات
العراقيون ضحايا الحج والعمرة
منذ سنوات، تحوّلت "السعودية" إلى مكان لا يُؤمَن فيه على حرية الرأي، حتى لمن يدخل أراضيها زائرًا أو معتمرًا أو حاجًا.
فالقمع الذي يطبع تعامل السلطات السعودية مع مواطنيها لم يعد حكرًا على الداخل، بل بات يشمل الأجانب الذين يجدون أنفسهم تحت سطوة قوانين قاسية لا تميّز بين من يرتكب جريمة فعلية ومن يعبّر عن رأي أو موقف عابر على وسائل التواصل الاجتماعي.
حادثة اعتقال خمسة شبان عراقيين في أيلول/سبتمبر 2024 جاءت لتؤكد هذه الحقيقة وتفضح من جديد النهج الأمني المتصلب الذي تتبعه الرياض حتى مع ضيوف بيت الله الحرام.
فقد قصد الشبان العراقيون شبه الجزيرة العربية ضمن حملة دينية لأداء مناسك العمرة، لكن تزامن وجودهم مع حادثة اغتيال الأمين العام السابق لحزب الله الشهيد السيد حسن نصر الله. وكغيرهم من مئات الآلاف الذين ملأت صورهم ومنشوراتهم وسائل التواصل الاجتماعي، عبّر هؤلاء الشباب عن حزنهم عبر كلمات وصور تعزية، دون أن يخطر ببالهم أن هذا الفعل البسيط سيحوّل رحلتهم الدينية إلى كابوس.
ففي داخل الحرم المدني، جرى استدعاؤهم من قبل عناصر أمنية سعودية، ونُقلوا إلى غرفة تحقيق حيث طُلب منهم حذف ما نشروه، مع تهديدهم بحرمانهم من دخول الأراضي "السعودية" لاحقًا. حينها أُبلغوا أن الأمر لن يتعدى ساعات من الاحتجاز يعقبها ترحيلهم إلى العراق، لكن المفاجأة أن وعود السلطات لم تُنفذ، وتحوّل الملف إلى قضية طويلة انتهت بزجهم في سجن ذهبان سيئ السمعة بجدة.
منذ ذلك الحين، وأهالي المعتقلين يعيشون حالة من القلق المستمر بحثًا عن أي بارقة أمل تعيد أبناءهم إلى أحضانهم. تحركاتهم لم تتوقف، من بيانات ومناشدات إلى وقفات احتجاجية، حتى تحولت القضية إلى رأي عام داخل العراق، خصوصًا مع تصاعد التفاعل عبر مواقع التواصل الاجتماعي. الضغط الشعبي أجبر المؤسسات الرسمية على التحرك، وإن كان متأخرًا، بعد أن بدا في البداية أن الحكومة العراقية اكتفت بخطوات روتينية عبر سفارتها في الرياض.
في هذا السياق، انتقد النائب العراقي حسن فدعم، في حديث مع "مرآة الجزيرة" السياسة السعودية في التعامل مع الأجانب على أراضيها، مؤكّدًا أن "الإجراءات التعسفية لا تطال العراقيين وحدهم، بل تشمل مختلف الجنسيات، في إطار نهج معروف عن النظام السعودي الذي لا يتوقف عن إعدام واغتيال أصحاب الرأي، حتى من الشباب والقاصرين".
وأوضح فدعم لـ"مرآة الجزيرة" أن "الخلل الجوهري في سلوك السلطات السعودية يكمن في أنها تعامل الزائرين والوافدين، سواء للحج أو العمرة أو لأغراض أخرى، بنفس أدوات القمع التي تمارسها ضد مواطنيها، من ظلم واضطهاد وتكميم للحريات، وعلى رأسها حرية التعبير بما في ذلك على مواقع التواصل الاجتماعي". وأضاف أن "من يدخل الأراضي السعودية يُعامل وكأنه مواطن سعودي محكوم بالدكتاتورية، حيث يُمنع من إبداء أي رأي أو التعبير عن هويته السياسية، حتى لو كان ذلك مجرد تغريدة أو مشاركة صورة".
وعن موقف بغداد، أشار فدعم إلى أن "وزارة الخارجية العراقية تحرّكت لكنها تأخرت كثيرًا، ولم تُظهر الجدية إلا بعد تصاعد احتجاجات أهالي المعتقلين وانتشار القضية على مواقع التواصل الاجتماعي"، مبينًا أن التحرك الأولي للسفارة العراقية في الرياض "لم يتجاوز المخاطبات الروتينية"، قبل أن يضطر رئيس الوزراء محمد شياع السوداني للتدخل وتشكيل لجنة عليا برئاسة وزير الخارجية لمتابعة الملف مباشرة مع الرياض.
كما لفت إلى أن "مجلس النواب لعب دورًا مهمًا من خلال المذكرات الرسمية، لكن لجنة العلاقات الخارجية لم تكن بمستوى المسؤولية، فيما شكّلت الضغوط الشعبية والمظاهرات التي خرجت رافعة أساسية أجبرت الحكومة على التحرك الجاد". وأكد أن وفدًا رسميًا زار السعودية مؤخرًا، حيث حصل على وعود بإطلاق سراح الشباب العراقيين الخمسة وإعادتهم إلى وطنهم "في وقت قريب".
وختم فدعم حديثه قائلاً: "الظروف القائمة في السعودية لا بد أن تتغير. من غير المقبول أن تُعامل السلطات السعودية ضيوف بيت الله الحرام بالديكتاتورية نفسها التي تفرضها على شعبها. هذه الشعوب اعتادت على حرية التعبير ولا يخطر ببالها أن يُعاقب مواطن لمجرد مشاركته صورة أو كلمة عزاء. ما يجري انتهاك خطير، وعلى الرياض أن تراجع سلوكها وتكفّ عن تحويل أراضيها إلى سجن كبير".
وفي خضم انتظار العراقيين تنفيذ هذه الوعود، يظل القلق الأكبر مرتبطًا بطبيعة المكان الذي يقبع فيه المعتقلون. فاسم سجن ذهبان ارتبط منذ سنوات بسمعة سيئة، إذ وثّقت منظمات حقوقية، بينها منظمة العفو الدولية، أن السجن يضم معارضين سياسيين وناشطين حقوقيين يتعرضون لشتى صنوف التعذيب النفسي والجسدي، والعزل الانفرادي لفترات طويلة، إلى جانب حرمانهم من التواصل مع المحامين وأسرهم. وقد وصفته المنظمة بأنه "رمز للقمع الممنهج" الذي تمارسه السلطات السعودية بحق كل من يجرؤ على التعبير عن رأي مختلف
وهكذا تبقى قضية الشبان العراقيين الخمسة اختبارًا لمدى التزام الرياض بوعودها، ولقدرة الحكومة العراقية على حماية مواطنيها، في وقت يواجه فيه ضيوف بيت الله الحرام سلوكًا لا يليق بحرمة المكان ولا بقيمه. وبين الانتظار الطويل والوعود المؤجلة، تظل مأساة هؤلاء الشباب شاهدًا على واقع تحوّل فيه مجرد كلمة عزاء إلى جريمة يعاقب عليها بالاعتقال والسجن.
ارسال التعليق