الاخبار
الفساد الاقتصادي في السعودية: بين وهم المكافحة وواقع التناقض
بين ضجيج “الإصلاحات” في الإعلام الرسمي وبيانات الاعتقال التي تُسوَّق كـ“حربٍ على الفساد”، تتكشّف السعودية عن مشهدٍ مزدوجٍ يُزاوج بين البلاط المبرقَش والظلال السوداء خلفه.
رؤية 2030 باتت تُلمِّع الصورة كلَّ يومٍ بمشاريع تُشبه عروض السيرك المالي، فيما تتعفن داخل أروقة الرقابة أجهزة يفترض أن تكون حارسة النزاهة لا شريكةً في دفنها.
المكافحة هنا ليست سياسة، بل ديكور رخامي تزييني، يلمع في الضوء ويتهشّم عند اللمس.
إنجازات أم استعراض؟

هيئة “نزاهة” تواصل منذ منتصف 2025 نشر بيانات شهرية عن حملات توقيف وتفتيش في وزارات سيادية وخدمية، لكنها حتى اليوم لم تُصدر قاعدة بيانات سنوية مُعلنة أو إحصاءً تراكمياً للعدد الإجمالي من القضايا والموقوفين. هذا الغياب الرقمي المتعمّد يجعل الغموض نفسه سياسة.
التُهم المكرَّرة: رشوة، تزوير، استغلال نفوذ، وغسل أموال في مناقصات ضخمة.
اللافت أن كثيراً من الموقوفين يشغلون مناصب رقابية داخل الأجهزة التنفيذية، وكأن الجيش يُعتقل ضباطه سرا وهم يرتدون بزاتهم.
أما عن الرواية التي تحدّثت عن “توقيف موظفين داخل نزاهة نفسها”، فحتى أكتوبر لا وجود لبيانات رسمية واضحة؛ مجرد تواتر إعلامي “بالتعاون مع الهيئة” دون أسماء أو مسميات، وهذا الصمت حزبٌ من أحزاب التواطؤ، يُمارس الشفافية كاستعراض علاقات عامة لا كقيمة مؤسسية.
قراءة الأرقام: الفساد البنيوي لا يموت بالبيانات:
خلال الأشهر العشرة الأولى من 2025 تكرّر النمط ذاته: قضايا رشوةٍ في العقود الحكومية، تضارب مصالح داخل المشروعات الرأسمالية، وعمليات غسل أموال مرتبطة بالتعويضات والمشتريات العامة.
البيانات المتوافرة تُبرز أن المشكلة نظامية لا ظرفية؛ إن تحوّلت الرشوة إلى شرطٍ لإنجاز المعاملة، فالفرد ليس الفاسد بل المؤسسة التي حمَت الإجراء بالفساد كممر إجباري.
التحسّن الرقمي… والتراجع البنيوي:
في مؤشر إدراكات الفساد 2024 سجّلت السعودية 59 نقطة من 100 واحتلت المركز 38 من أصل 180 دولة (+7 نقاط عن العام السابق).
التحسّن يُنسب إلى تطوير الخدمات الإلكترونية وتقليل الاحتكاك المباشر في المعاملات الصغيرة، بينما تظل بنية القرار محتكرة عمودياً لا تخضع لمساءلةٍ حقيقية.
التحسّن هنا “تجميلي – تقني” يخدم واجهة النظام أمام الخارج، لا عمق العدالة في الداخل.
فالمؤشر لا يُخدع بسهولة؛ فرائحة الفساد البنيوي تُشمّ مهما تَعطَّر الخطاب بالحديث عن الكفاءة والحوكمة.
الخسائر الاقتصادية الفعلية:
مع ميزانية 2025 التي بلغت نحو 1.2 تريليون ريال، تشير تقديرات متحفظة إلى فاقدٍ يقارب 120 مليار ريال سنوياً (10% من الإنفاق العام) نتيجة الرشوة وتضارب المصالح وهندسة العقود.
هذا النزف لا يتبخر، بل يُعاد تدويره ضمن شبكةٍ محكمة من المقاولات والمشاريع الكبرى التي تُدار كـ“أحواض تبييض” للأموال بدلاً من أن تكون محرّكاً للنمو.
دخلٌ يُعاد تسريبه إلى نفس الطبقة المُستفيدة من النظام، داخل الدار لا خارجها.
نمو بلا عدالة… عدالة بلا وجود:
تقرير صندوق النقد الدولي (مشاورات المادة الرابعة – 2025) وصف الاقتصاد بالـ“مرن”، لكنه حذّر جهاراً من اتساع العجز وتزايد الدين الخارجي لتمويل مشاريع المظهر.
النمو غير النفطي: 4.5% تقريباً.
النمو الإجمالي: نحو 2%.
التضخّم في أغسطس: 2.3%، مع ارتفاع إيجارات السكن 7.6%.
الاحتياطيات الأجنبية: 1.71 تريليون ريال (456 مليار دولار) – رهينة أسعار النفط لا تنويع الإنتاج.
البطالة المعلَنة تراجعت إلى 3–4%، لكن متوسط راتب المواطن لا يتجاوز 5 آلاف ريال؛ أي أنه يعمل ليُؤجّر نفسه لوطنه من جديد.
النمو المحفَّز مركزيّاً بلا توسيع للقاعدة السكانية المستفيدة ليس إصلاحاً، بل تجميل فني للفقر.
ثقافة الخوف والتقِيّة الإدارية:
في نظام يقوم على الرقابة المتوترة والعقوبة المزدوجة، يصبح الامتثال نسخةً من الرعب، الموظف يُنفّذ ما يُؤمر به، ولو خالف النظام، فقط لأن النظام يُعاقِب من يرفض الخروج عنه ومن يلتزم به على السواء.

هكذا تنشأ حالة “الفساد الدفاعي”: رشوةٌ صغيرة لضمان استمراره، تزويرٌ بسيط لتجنّب غضبٍ كبير، التقيّة هنا ليست دينية بل إدارية، تحمي الرقاب من سطوة من لا يُسأل.
رؤية 2030: بورصة الأحلام ومجاعة العدالة:
مشاريع “نيوم” و“ذا لاين” و“السعودية الجديدة” ليست سوى جزر مالية مغلقة، تُعيد تركيز الثروة في مناطق غير خاضعة لأي رقابة شعبية أو تشريعية.
المواطن يلاحق إيجار بيته، والدولة تبني مدناً المستقبل بمالٍ لا يضمن له حاضرَه.
الإصلاح المزعوم قائم على تلميع الرؤية وليس على إصلاح المجتمع، وعلى تخدير الداخل بمصطلحات “التحوّل الاقتصادي” فيما تتسع الهوّة الطبقية وتزداد هشاشة العقد الاجتماعي.
أزمة الشفافية:
التعيينات العليا تُجرى في صمتٍ غير مفسَّر، والمناقصات الكبرى تُنشر برقمنة شكلية تخفي في تفاصيلها مليارات تُهرَّب بطرائق “قانونية على الورق، فاسدة في المضمون”.
لا أحد يعرف أسماء من يُوظَّفون في المراتب الحساسة، ولا حجم العقود في المشاريع شبه السيادية، إنها نُزاهة بلا معلومات، وعدالة بلا شهود.
“حرب على الفساد” أم هندسة للولاء؟
السابقة المؤسسة لمكافحة "الفساد" كانت الريتز كارلتون (2017–2019)، حين تمّت تسويةٌ قُدِّرت رسمياً بأكثر من 100 مليار دولار مع 381 شخصية أُفرج عنهم بعد تعهدات مالية وسياسية. كان ذلك مختبر الولاء المادي للدولة الحديثة، تجربة رسّخت القاعدة الجديدة: الحكم يعتقل ثم يفاوض ثم يربح.
منذ ذلك اليوم، تحوّلت مكافحة الفساد إلى هندسة سياسية للولاء والنقمة، حيث تُدار الثروة بالعقوبة والامتياز في آنٍ واحد.
الخاتمة: القمع يخفي الجرح ولا يداويه:
بين شرطة البيانات وأبراج الرؤية، يبقى المواطن في منتصف المسافة: من يُستدرج إلى حكاية النمو ولا يجد نصيبه منه.
حملات هذا العام تُنتج عناوين براقة، لكنها لا تُنتج إصلاحاً، السبب ليس قلة المجرمين بل وفرة البنية التي تحميهم.
اقتصاد ممسوك من الأعلى، شفافية مُخنوقة، ومعيشة تسمح للرشوة الصغيرة أن تكون طوق نجاة.
ما لم تُكسر مركزية القرار والمال والإعلام، سيبقى البرق الذي يلمع على واجهة الدولة علامةً على بيتٍ مظلم من الداخل، حيث يتراكم الصمت كعملةٍ رسمية، ويُصبح الجوع الاقتصادي جريمةً يعاقَب عليها لا مأساةً يُعالج منها.
مملكة الوهم الاقتصادي لا تُسقطها أزمة رقمية، بل يُسقطها السؤال الممنوع حين يُقال بصوتٍ عالٍ: من يراقب الرقيب؟
هوامش محدَّثة (أكتوبر 2025):
مؤشر إدراكات الفساد 2024: 59/100، المركز 38 من أصل 180 دولة، +7 نقاط عن 2023 — Transparency Internationalتقرير صندوق النقد “مشاورات المادة الرابعة – السعودية 2025”: نمو غير نفطي ~4.5%، تحذير من العجز والدَّين — IMF Staff Report 2025التضخم أغسطس 2025: 2.3% سنوياً، إيجارات السكن +7.6% — GASTAT / SPAالاحتياطيات الأجنبية أغسطس 2025: 1.71 تريليون ريال ≈ 456 مليار دولار — SAMA / Trading Economicsحملة الريتز كارلتون (2017–2019): تسويات بأكثر من 100 مليار دولار مع 381 شخصية — BBC، الجزيرة، أرشيف تقارير دولية
حركة الحرية والتغيير
https://hourriya-tagheer.org
ارسال التعليق