حدث وتحليل
إنهيار التعليم السعودي تحت شعار الكفاءة: جيل مزدحم في وطنٍ فارغ
[ادارة الموقع]
الرياض — 26 أكتوبر 2025
الجريمة التي تُرتكب بصمت:
ليست المسألة في إغلاق ألف فصل، بل في دفن جيلٍ كامل تحت ورقة قرارٍ باردة.
إنها ليست إدارة مكتبية، بل انهيارٌ متعمّد لمنظومةٍ فقدت عقلها وضميرها؛ منظومةٍ كانت تُفترض أن تُنشئ التفكير المبدع فإذا بها تُدرّب على الطاعة، تُعلّم الصمت أكثر مما تُعلّم النطق، وتُغلق الفصول بنفس الهدوء الذي تُغلق به العقول.
فصول تُغلق، وأطفال يُحشرون، ومعلمون يُتركون كحراسٍ على خرابٍ تربوي منسّق.
البيان الرسمي غائب، كعادته في الأزمات التي تُولد في الظل.
تتطاير الأرقام بين المنصات: إغلاق 67٪ من فصول البنات و58٪ من المدارس الابتدائية، بما في ذلك المراحل الأولى — أرقام تُشبه عمليات القضم الهادئ للوعي الوطني تحت لافتة «رفع الكفاءة» التي لم تُحدّد يومًا معنى الكفاءة.
حتى ولو كانت هذه النسب تقديرية، فإنها تعكس حجم التصدع البنيوي في منظومة تعليمية بنيت على توقعات نمو سكاني مخطط لها لعقود، لكنها تُعامل اليوم وكأنها فائضٌ يجب تجميده بلا تفسير.
وصمت الوزارة لا يعني فراغًا؛ بل إقرارًا ضمنيًا بالفوضى، ورسالة صريحة بأن الإدارة تمضي بقرارات عشوائية لا تحتاج إلى رأي شعبي، وإذا كان الهدف هو التوفير، فإن هذا التوفير يتم على حساب أثمن الأصول: الطفل، أي مستقبل البلاد نفسه.
قرارات غامضة وصمتٌ مريب:
حتى كتابة هذا التقرير لم تُصدر وزارة التعليم بيانًا يشرح أسباب هذا الارتباك.
بين 25 و26 أكتوبر، خرجت الصرخات وتهشّمت الثقة الشعبية في إدارة التعليم بعد تدفق شهادات عشرات المعلمين وأولياء الأمور على منصة X (تويتر سابقًا)، الذين أكدوا أن النتائج كانت كارثية: فصول مكتظة تضمّ أكثر من خمسين طالبًا، ومعلم واحد يكافح عبثًا لتحويل الصخب الجماعي إلى درسٍ فردي.
ما يجري على أرض الواقع نقض كامل للخطاب الحكومي الذي يروّجه الذباب الإلكتروني حول «تحسين المعدلات».
الغاية لم تكن تطويرًا تربويًا بل خفض النفقات وتجميل الأرقام على الورق.
وراء كل شعار تنموي، يقف حساب اقتصادي بارد ينظر إلى الطالب كعبء يمكن ضغطه لتسديد فواتير “المواسم والعبث الاميري”، من ترفيهٍ ومشاريعٍ لا تمتّ بصلة للمصلحة التعليمية.
تحليل الآثار الفورية للإغلاق:
- التحويل القسري: نُقل مئات الطلاب من مدارس محدودة السعة إلى أخرى تجاوزت طاقتها الاستيعابية بنسبة تتراوح بين 150٪ و200٪.
- تشتيت الكادر التعليمي: غياب خطة واضحة لإعادة توزيع المعلمين أدّى إلى مضاعفة الأعباء التدريسية؛ فأصبح المعلم الواحد مسؤولًا عن فصول متعدّدة أو تخصصات مدمجة.
- الأزمة اللوجستية: المدارس المستقبِلة لم تكن مجهزة لاستيعاب هذا العدد، فتحولت قاعات الأنشطة والمكتبات إلى فصولٍ مؤقتة، متجاهلة أبسط المعايير الصحية والتربوية.
تحولت إجراءات يفترض أنها إدارية إلى كارثة تربوية مكتملة الأركان.
المعلم اليوم يمارس نوعًا من “الفرز النفسي” داخل الفصل: يقرر من يستحق أن يُنتبه إليه، ومن عليه أن يصمت كي لا يخرج النظام عن السيطرة.
هكذا تغيّر جوهر التعليم من بناء الشخصية إلى إدارة الحشود.
الجودة تتهاوى تحت ثقل الكم:
تشير دراسة جامعة والدن (2024) إلى أن ازدحام الفصول يقتل التعليم الفردي ويحوّل الطفل إلى رقمٍ مجهول في طابورٍ ممتدّ، تنخفض درجاته فيما يرتفع سلوكه العدواني.
المعلم السعودي لم يعد ناقل معرفة، بل مدير أزمة يومية بين خمسين نفسًا تبحث عن مقعدٍ ونافذة هواء.
في الوضع المثالي، حين يكون الفصل من عشرين طالبًا، ينال كل واحد قدرًا معقولًا من اهتمام المعلم ووقته.
أما في فصول الخمسين طالبًا، فإن ذلك الوقت ينخفض إلى أقل من النصف — لا يتجاوز 40٪ مما كان يحصل عليه سابقًا.
هذا يعني أن كل طالب بات يتلقى جزءًا ضئيلًا من الرعاية التعليمية، فينهار التفاعل وتتحول العملية إلى تلقين جماعيٍ بلا معنى.
النظام لم يوفّر أجهزة عرض ولا تهوية، والمدارس تختنق بحشودٍ من الجاليات والطلاب المحليين معًا في بيئة فقدت معناها التربوي.
أطفال الصفوف الأولى يتعلمون الصمت أكثر من الحروف، والخوف أكثر من الحساب.
البيئة الصفّية المكتظة صارت غير آمنة معرفيًا، يندر فيها التركيز، وتعلو فيها مستويات التوتر.
كما ظهرت آثار صحية مقلقة: تدهور جودة الهواء الداخلي (IAQ)، وتزايد معدلات العدوى التنفسية بين الطلاب والمعلمين، لتحوّل المدرسة من فضاءٍ للتعلّم إلى مركز لتداول المرض.
الموازنة المالية تدخل الفصول:
الإنفاق على التعليم، حسب موقع knoema.com، تراجع من 8.47٪ عام 2006 إلى 5.11٪ عام 2023 — أي انخفاض مقداره 3.36 نقاط مئوية.
ورغم هذا التقليص الهائل، تضاعف عدد الطلاب بفعل النمو السكاني وتزايد أبناء الوافدين، ليصبح ما يُنفق اليوم أقل كثيرًا من الحد الأدنى المطلوب لمجاراة الواقع.
إنه تراجع ممنهج في أولويات الدولة تجاه التعليم: كل زيادة في عدد الطلاب تقابلها ميزانية تتناقص، وكأن المطلوب أن ينشأ الجيل في فراغٍ بلا معنى، يُزيّنه الإعلام ويُفرغه الواقع ليُملأ عقله بالأوامر لا بالأفكار.
تُثار تساؤلات حول ما إذا كان القرار متعمدًا لتقليص الإنفاق أو نتيجة إدارة فاشلة تبيع الوهم وتشتري مستقبل الجيل.
فإغلاق الفصول يوفر تكاليف مؤقتة (إيجارات، صيانة، ومرافق)، لكنه يخلق ديونًا تربوية مستقبلية عبر فجوات معرفية ضخمة تحتاج لاحقًا إلى إنفاق تصحيحي مضاعف.
القرارات الاقتصادية هنا تتجاوز المنطق التربوي، في وقتٍ تحتاج فيه البلاد إلى مدارس وتقنيات تعليمية قادرة على إعداد أجيال لوظائف اقتصاد المستقبل، بينما الواقع يشهد تفكيكًا منهجيًا للبنية الأساسية.
المجتمع تحت الضغط:
حين يُحشى الأطفال في القاعات، يبدأ المجتمع بالانفجار من الداخل.
المدارس تصبح بؤرًا للضغط الاجتماعي والصحي: أمراض معدية، تمييز طبقي بين من يلتحق بمدارس أهلية فارهة ومن يُدفن في قاعات عامة مكتظة، وصراعٌ رمزي على المقاعد يعكس أزمة هوية وطنية قبل أن يكون أزمة إدارة.
أبعاد الضغط الاجتماعي:
- العدالة الاجتماعية المفقودة: الفجوة تتسع بين أبناء الميسورين الذين ينتقلون إلى المدارس الخاصة، وبين الغالبية التي تُجبر على تعليمٍ متدهور، مما يخلق جيلين منفصلين ثقافيًا وتعليميًا.
- ضغط الأسرة: الآباء والأمهات يضطرون لتعويض النقص من خلال الدروس الخصوصية، ما يقلل إنتاجيتهم ويزيد الأعباء الأسرية.
- تفكيك البيئة المدرسية: المدارس في مناطق الإغلاق أصبحت ساحات صراع على الموارد المحدودة؛ مقعد، سبورة، أو دقيقة من انتباه المعلم — درسٌ عملي في قانون الغاب التعليمي.
هذا الانفصال المتسارع يهدّد مشروع بناء الجيل المؤهل لرؤية 2030؛ كيف يُراد لجيلٍ أن يبني المستقبل وهو عاجز عن إيجاد مقعد في فصله؟
الاستثمار في التعليم ليس ترفًا بل ضمانة وجود للدولة نفسها؛ فالعقول لا تُبنى في ضجيج الفصول المغلقة بل في هدوء الاهتمام الحقيقي.
دعوات الإصلاح والمساءلة:
يرفع المعلمون والأهالي أصواتهم بيأسٍ: يطالبون بالتوسيع لا الإغلاق، بالتمويل لا التضليل.
لكن الوزير، ككثير من الوزراء في الملفات السعودية، يلوذ بالصمت خلف التصريحات المنمقة.
كل يوم يمر دون توضيح رسمي يزيد من شكوك الناس بأن هناك حسابات خفية تُدار بالمال والعلاقات.
تعليقات مواقع التواصل لم تعد آراء بل وثائق شاهدٍ شعبي على انكسار الثقة بين المواطن ومؤسسة التعليم.
مطالبهم بسيطة وواضحة:
- تجميد قرارات الإغلاق حتى إعداد دراسة أثر اجتماعي ولوجستي.
- إعادة توزيع الميزانيات لتحسين بيئات الفصول المتبقية وتوفير مساعدي معلمين.
- مساءلة الجهات المسؤولة عن البيانات التي بُني عليها القرار.
لكن هل من مستمع؟ هل من مفكّرٍ يعي أن ما يُرتكب لا يمسّ المدارس فقط، بل مستقبل البلاد كله؟
الغياب التام للشفافية يخلق فراغًا تملؤه الشائعات، وفراغ الثقة أخطر من أي ازدحام صفي.
جيلٌ على حافة النسيان:
ما يجري ليس تطويرًا إداريًا، بل اختزالٌ للوعي الوطني في معادلة ربحية.
حين تتحول القاعة إلى زحامٍ بلا هواء، يتكوّن جيلٌ يرى المدرسة سجنًا لا محرابًا للمعرفة.
إن التعليم السعودي يقف اليوم على حافة الفراغ؛ بين بيروقراطية مغلقة وواقعٍ يموت ببطء.
إذا استمر هذا المسار، فلن تكون الخسارة في الميزانية فقط، بل في جيلٍ بأكمله سيُحرم من أدوات التفكير والنقد والتحليل.
الإصلاح الحقيقي يبدأ حين تُعاد صياغة أولويات الإنفاق، ويُكسر جدار الصمت الإداري الذي يخفي الفشل خلف لافتات براقة.
إن لم يُتَّخذ قرارٌ عاجل، فلن نخسر عامًا دراسيًا فحسب، بل عقدًا من الزمن ووجوهًا كانت مُهيّأة لصناعة الغد.
الفوضى التعليمية ليست خطأ عابرًا؛ إنها جريمة مؤسسية تُرتكب بصمت في بلدٍ يُسوّق نفسه "كقائدٍ حضاري" فيما جيله يُختصر في رقم فصل.
حركة الحرية والتغيير
ارسال التعليق