قالوا وقلنا
طريق تطبيع السعودية يهدد بانقسامٍ إقليمي
بقلم: د. فؤاد إبراهيم...
في 17 أكتوبر، قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لشبكة «فوكس نيوز»: «آمل أن أرى السعودية تنضم، وآمل أن أرى الآخرين ينضمون. أعتقد أنه عندما تنضم السعودية، سينضم الجميع».
كان هذا التصريح محسوبًا لإحياء حملة واشنطن من أجل التطبيع، ولإعادة تأكيد موقع الرياض في قلب مخطط التحالف الإقليمي الأمريكي ـ الإسرائيلي.
يبدو أن ترامب مصمم على إكمال عملية إعادة الاصطفاف الإقليمي التي بدأها عام 2020 بتوقيع اتفاقات أبراهام. فضمّ السعودية إلى هذه المنظومة سيُتوَّج كإرثٍ لسياساته الخارجية، وسيمثل تحولًا جوهريًا في النظام السياسي العربي. لكنّ الكلفة قد تكون أعلى من المكاسب.
في الأشهر التي سبقت الحرب الإسرائيلية على غزة، كانت المفاوضات التي تقودها الولايات المتحدة بين السعودية وتل أبيب تقترب من اختراقٍ نوعي.
فقد سعت الرياض إلى ضمانات أمنية أمريكية، وإلى الحصول على أنظمة أسلحة متطورة، ودعمٍ لبرنامجها النووي المدني. أما الجانب الإسرائيلي، الساعي إلى شرعيةٍ إقليمية، فكان يرى في الرياض فرصةً تاريخية.
لكن عملية «طوفان الأقصى» في 7 أكتوبر 2023، وما أعقبها من قصفٍ إسرائيلي شامل لغزة، نسفت المسار بأكمله. واضطرت السعودية إلى التراجع تحت وطأة الغضب الشعبي الجارف في العالمين العربي والإسلامي.
مع ذلك، فإن ثقة ترامب المتجددة تشير إلى أن الإطار الذي وُضع قبل الحرب لم يُلغَ فعليًا، بل جُمِّد مؤقتًا بانتظار مناخٍ سياسي أكثر ملاءمة.
تستمد المملكة ثقلها الرمزي من ثلاثية نادرة: وصايتها على أقدس موقعين في الإسلام، وثروتها النفطية الضخمة ونفوذها الاقتصادي، ودورها القيادي الكبير في العالمين العربي والإسلامي.
وإذا ما طبّعت المملكة علاقاتها مع تل أبيب، فقد يتبعها تأثير الدومينو في دولٍ عربية وإسلامية أخرى.فبالنسبة لإسرائيل، سيكون ذلك أعظم المكاسب الإقليمية؛ أما بالنسبة لواشنطن، فسيمثل ترسيخًا لتحالفٍ بقيادتها يمتد من المتوسط إلى الخليج الفارسي، هدفه المباشر احتواء إيران والصين.
رغم التداعيات السياسية الناجمة عن حرب غزة، لا تزال هناك عوامل عدّة تدفع الرياض نحو التطبيع. فكلٌّ من السعودية وإسرائيل تعتبر إيران ومحور المقاومة الخصمَ الإقليمي الرئيسي.
هذا التوافق الاستراتيجي لم يُمحَ بالكامل رغم الانفراج الذي رعته الصين بين طهران والرياض عام 2023.
إلى جانب ذلك، ترى السعودية في «رؤية 2030» فرصة لتنويع اقتصادها، وتشهد قطاعات إسرائيلية مثل التكنولوجيا الدفاعية والأمن السيبراني فرصًا مغرية.
أما أسلوب ترامب القائم على الدبلوماسية التبادلية، فقد يتيح «صفقة كبرى» تشمل اتفاقات دفاعية وتعاونًا نوويًا وتدفقاتٍ استثمارية ضخمة، ما قد يلائم الطموح السعودي.
وفي الداخل، قد تكون الأجيال السعودية الشابة، الأكثر انفتاحًا عالميًا، أقل عداءً أيديولوجيًا لفكرة التطبيع، إذا قُدِّمت باعتبارها جزءًا من مشروع التحديث.
غير أن استطلاعاتٍ أجراها «معهد واشنطن» قبل وبعد 7 أكتوبر 2023 أظهرت ميولًا مختلفة: إذ بينت نتائج كانون الأول/ديسمبر أن أغلبية السعوديين يعارضون تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
التطبيع ليس بلا مخاطر، بل إن نجاحه ذاته قد يُزعزع استقرار المنطقة.فأي اتفاق سعودي ـ إسرائيلي يتجاهل حقوق الفلسطينيين سيُعد خيانةً للمسؤولية الدينية للمملكة ولدورها القيادي.
الدمار في غزة أعاد إحياء التضامن الإسلامي، وأي تقارب سعودي مع تل أبيب بينما الفلسطينيون يرزحون تحت الحصار والقصف سيقوض شرعية المملكة في العالم الإسلامي.
وسيعمد محور المقاومة – وخصوصًا إيران وحزب الله وأنصار الله – إلى تصوير التطبيع كتحالف بين «المرتدين والمحتلين»، ما سيغذي المواجهات ويكثفها.
إن التزام الرياض بشراكة متقلبة مع واشنطن وتل أبيب قد يجرها إلى صراعاتٍ أوسع، ويقوض استقلالها الاستراتيجي، ويعرضها لارتداداتٍ خارجة عن سيطرتها.
البعد الأمني: محور ثلاثي :
إذا ما فتح التطبيع الباب أمام بنيةٍ أمنيةٍ ثلاثية بين الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية، فستكون التداعيات على غرب آسيا عميقة.فإسرائيل ستقدم خبرتها الاستخبارية والعسكرية، وواشنطن ستوفر الإشراف والضمانات، فيما ستمول الرياض المشروع.
لكن طهران ستقرأ في ذلك محاولةً جديدة لتطويقها، ما سيدفع الجمهورية الإسلامية إلى تسريع تطوير قدراتها الصاروخية والنووية.وقد تنزلق المنطقة إلى سباق تسلحٍ يعيق التنمية ويستنزف الميزانيات ويزيد خطر الحسابات الخاطئة.
وفوق ذلك، قد يُفكك هذا التحول المكاسب الدبلوماسية الأخيرة للمملكة – بما فيها تقاربها مع إيران والعراق، ومحادثاتها مع حكومة صنعاء بوساطةٍ عُمانية – كما قد ينفّر شركاءها الأوراسيين مثل الصين وروسيا.
النتيجة الصافية ستكون تراجع النفوذ الإقليمي وزيادة الاعتماد على الغرب.
داخليًا أيضًا، ستواجه المملكة تحدياتٍ جدية. فالأصوات الدينية والقومية المعارضة قد تصوّر التطبيع على أنه استسلام أيديولوجي. وستضطر الحكومة إلى الاتكال أكثر على الدعم الأمريكي والإسرائيلي لقمع المعارضة، ما يفاقم هشاشتها الداخلية.
تشكل الحوافز الاقتصادية جوهر خطاب التطبيع. فالتكامل السعودي ـ الإسرائيلي قد يفتح تدفقاتٍ استثمارية ضخمة وشراكات تكنولوجية في مجالاتٍ تمتد من الذكاء الاصطناعي إلى الطاقة المتجددة.
لكن هذا الاندماج قد يعمّق التبعية البنيوية. فالشركات الإسرائيلية، المدعومة برأس المال الغربي والتفوق التكنولوجي، ستسيطر على سلاسل القيمة، وقد يتحول الاقتصاد السعودي من الاعتماد على النفط إلى التبعية الرقمية.
كما أن هذه الخطوة قد تُعكّر علاقات المملكة مع الصين، أكبر شريكٍ تجاريٍ لها حاليًا. فالتقارب المفرط مع المحور الأمريكي ـ الإسرائيلي قد يهدد سياسة التوازن المتعدد الاتجاهات التي تنتهجها الرياض ويضيّق هامشها الدبلوماسي.
حتى وعد «التحديث» قد يبدو فارغًا إذا فُهم على أنه إثراء للنخب على حساب العامة. فالممر الاقتصادي قد يتحول إلى أداةٍ لإنتاج اللامساواة، يحدّث البنى التحتية لكنه يترك العقد الاجتماعي على حاله.
دولة المراقبة: الوجه المظلم للتطبيع:
أحد الجوانب الأقل نقاشًا في مسار التطبيع هو التعاون السيبراني. فإسرائيل، بوصفها مركزًا عالميًا للمراقبة الرقمية، والسعودية، بقدراتها المالية الهائلة، قد تتقاطعان لبناء شبكة تحكم رقمية ضخمة.
مثل هذا النظام – الذي يدمج برمجيات التجسس والشرطة التنبؤية والمراقبة بالذكاء الاصطناعي – سيعزز منظومة الاستخبارات الأمريكية في غرب آسيا، من خلال تطوير أنظمة الإنذار المبكر والدفاع الصاروخي والاحتواء الرقمي لمحور المقاومة.كما يمكن أن يمدّ أجهزة الاستخبارات الغربية إلى مسارح مثل اليمن والعراق ولبنان والبحر الأحمر.
عمليًا، قد يتطور هذا التحالف إلى منظومة عسكرية واستخبارية متكاملة تشمل القيادة والسيطرة والاتصالات والحوسبة والاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، تستند إلى مراكز بياناتٍ مشتركة وتحليلٍ تهديديٍّ بالذكاء الاصطناعي وشبكات أقمارٍ صناعيةٍ موحّدة.
لكن هذا التكامل سيحمل تبعاتٍ أخلاقية وسياسية عميقة. فالأدوات المصمَّمة لردع التهديدات الخارجية يمكن أن تُعاد توظيفها بسهولة للسيطرة الداخلية.
ومن خلال الجمع بين برمجيات التجسس الإسرائيلية وخوارزميات الشرطة التنبؤية والمعدات الأمريكية، ستوسع الحكومة السعودية قدرتها على مراقبة المعارضين وإحباط الاحتجاجات وتحييد المعارضة السياسية.
بهذا، قد يصبح التطبيع غطاءً شرعيًا لبناء أكثر أجهزة المراقبة تطورًا في العالم العربي.
إقليميًا، سيُقلق الشراكةَ السيبرانية السعودية ـ الإسرائيلية جيرانُ المملكة، خصوصًا إيران وقطر، اللتان ستريان فيها تهديدًا لسيادتهما وأمنهما القومي.
وسيكون الرد المرجح هو تسريع تشكيل تحالفاتٍ سيبرانيةٍ مضادة قد تشمل روسيا أو الصين أو تركيا، ما يمهّد لـ«حربٍ باردة رقمية» جديدة في الخليج الفارسي.
وعلى المدى الطويل، فإن اندماج التكنولوجيا الرقابية بالسلطة السياسية يطرح سؤالًا حضاريًا أعمق:
هل يمكن للعالم العربي أن يوازن بين سعيه للأمن وبين الحفاظ على الحرية والخصوصية؟فإذا تحولت الحدود الرقمية إلى أداةٍ جديدة للهيمنة، فقد يتحول «السلام التكنولوجي» الموعود إلى أداةٍ لحماية الأنظمة لا الشعوب، ويغدو حلم الابتكار مجرد هندسةٍ للسيطرة.
خيارات الرياض: ثلاثة مسارات محتملة:
التطبيع المشروط، أي ربط الاعتراف بإسرائيل بتقدمٍ ملموس في مسار إقامة الدولة الفلسطينية وسيادتها، وهو خيار يبدو متعذرًا مع تسارع الاستيطان في الضفة الغربية المحتلة.
الانخراط التدريجي (التطبيع الناعم)، أي التعاون الهادئ دون اعترافٍ رسمي تمهيدًا لصفقاتٍ مستقبلية.
التحوّط الاستراتيجي، أي الاستمرار في موازنة الضغوط الأمريكية مع الدبلوماسية الإقليمية، والإبقاء على ورقة التطبيع كورقة تفاوض.
لقد أعاد تصريح ترامب إشعال النقاش حول المسار الذي ينبغي أن تسلكه المملكة.فالمكاسب الفورية للتطبيع – من ضماناتٍ أمنيةٍ ومكافآتٍ اقتصاديةٍ ومكانةٍ دولية – مغرية، لكن عواقبه البعيدة قد تكون مدمرة.
الانضمام إلى اتفاقات أبراهام بينما غزة ما تزال تحت الأنقاض سيُلحق ضررًا لا يُصلح بصورة السعودية كقائدةٍ للعالم الإسلامي، وقد يفصلها عن الشارع العربي، ويفتح الباب أمام ردودٍ من محور المقاومة، ويكرّس نظامًا أمنيًا استعماريًا جديدًا.
ما لم يُربط التطبيع بعدالةٍ حقيقيةٍ للقضية الفلسطينية، فسوف يُذكر لا كسلام، بل كخيانة.
ارسال التعليق