قالوا وقلنا
العرب وملوك يهودا والسامرة
بقلم: غازي العريضي....
بعد زيارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، المنطقة، ذُكِر أن المبلغ الذي حمله معه يقارب 4.1 تريليونات دولار. لكن الرئيس صحّح كلّ المعلومات عند وصوله إلى واشنطن، وقال: "جمعنا 5.1 تريليونات دولار". مبلغ يبني دولاً صغيرة، ويعالج مشكلاتٍ كثيرة في منطقتنا، لكن الأكثر أهميةً أن العرب الكرماء هناك عاجزون هنا عن إدخال خمس شاحنات مساعدات إلى أهالي غزّة، الذين يموتون جوعاً وقتلاً بالقنابل الأميركية، والإبادة مستمرّة، ولا أحد في المنطقة يقول كلمةً لها تأثيرها أو فعلها. تحدّثوا عن حركة سياسية دبلوماسية للاتفاق على حلّ الدولتين. كلام في الهواء للأسف! لا مكان له في أرض الواقع.
في أوروبا، حركة فعلية من بريطانيا (وعد بلفور) إلى فرنسا، و18 دولة، وحديث عن إعادة النظر في الاتفاقات التجارية وغيرها مع إسرائيل. وهنا، افتخار بالعلاقات مع إسرائيل وتطويرها لتحقيق السلام. أيّ سلام؟... عندما رُفِع هذا الشعار بعد مؤتمر مدريد (1991)، قلت بالنسبة إلى إسرائيل الموقف هو "الأرض لنا والسلام عليكم يا عرب". لم يتفاعل أحدٌ من العرب فعلياً على المستوى الرسمي سياسياً أو إعلامياً أو دبلوماسياً لملاقاة الموقف الأوروبي، للاستفادة منه.
طبعاً، شنّ بنيامين نتنياهو هجوماً على القادة الأوروبيين، واتهمهم بمساندة الذين يعادون السامية. قال وزير خارجية فرنسا جان نويل بارو: "اتهام أي شخص يدافع عن حلّ الدولتين بأنه معادٍ للسامية أو مساند لحماس أمر سخيف"، وصدرت من قلب إسرائيل تصريحات سياسيين كثيرين تتحدّث عن "إبادة" ترتكبها إسرائيل، التي تتجه إلى أن تكون "دولةً منبوذةً"، وأنها "تمارس قتل الأطفال هوايةً"، تعليقاً على تصريحات لمسؤولين في الحكومة والكنيست، دعت إلى "استخدام النووي ضدّ الفلسطينيين"، كما فعلت أميركا مع اليابان في الحرب العالمية الثانية، وإلى طرد الفلسطينيين وتجويعهم حتى يستسلموا ويغادروا. وتوّج نتنياهو هذه المواقف بتأكيد موقفه، أن "جميع مناطق قطاع غزّة ستكون في النهاية تحت السيطرة الإسرائيلية"، وعيّن رئيساً جديداً لجهاز الأمن الداخلي (الشاباك)، ديفيد زيني، الذي أعلن فور تعيينه: "أرفض صفقات تبادل الأسرى. الحرب على غزّة أبدية. القصف على غزّة لا ينبغي أن يتوقّف من أجل إعادة المخطوفين". سيل من التصريحات في إسرائيل من رئيس الحكومة الأسبق إيهود باراك، إلى وزير الأمن السابق بني غانتس، وإلى غيرهما من مسؤولين سياسيين وعسكريين، انتقدوا التعيين وشخصية المُعيَّن، ومواقفه، والمذبحة في غزّة مستمرّة ومشروع التهجير هو الأساس الثابت.
وفي الضفة الغربية، اقتحم مستوطنون بلدات وقرى، وأحرقوا فيها البيوت والسيارات، وهدّدوا الأهالي وصرخوا في وجههم: "نحن ملوك يهودا والسامرة"، يعني نحن أصحاب الأرض، أصحاب القرار. وعدوانهم المفتوح يؤكّد ذلك. والأبشع، ذهب وفد دبلوماسي أوروبي مصري من المعتمدين لتمثيل بلادهم في دولة الاحتلال إلى جنين للاطلاع على الوضع، بعد أن كانت قوات الأمن الاسرائيلية قد منعت دخول نواب بريطانيين وفرنسيين، فأطلق جيش الاحتلال النار على الدبلوماسيين ترهيباً، ومنعهم من تحقيق هدف الزيارة. منعهم بالقوة، وهذا خير دليلٍ على أنه يطلق النار عليهم إذا أرادوا كشف الحقيقة، ولن يوفّرهم، وسيستمرّ في عدوانه حتى تهجير الفلسطينيين من أرضهم. قامت القيامة في أوروبا ومصر على مستوى رؤساء الحكومات ووزراء الخارجية لتسجيل مواقف مبدئية، ولطلب "إيضاحات مقنعة" كما قالوا. لم يسمع الإسرائيلي. لا يسمع. لن يسمع. سيكمل مشروعه، لكن لم تسجّل حركة عربية فاعلة مؤثّرة، سياسية إعلامية دبلوماسية، لمواكبة هذا الحدث الخطير، والردّ على "ملوك يهودا والسامرة"، فأيّ حلّ دولتَين يتحدّثون عنه؟ وأين؟ وكيف؟ ومع من؟
يستقوي نتنياهو بالقرار السياسي الرسمي الأميركي في ما يخصّ مستقبل غزّة، وامتداداً الضفة الغربية، وصولاً إلى "إسرائيل الكبرى"، ولو على مراحل. يتلاعب ويناور في الداخل، وينجح في تنفيذ مشروعه. سبق وقلت إنه أمهر وأخطر وأقدر رئيس حكومة في إسرائيل، يعرف كيف يتعامل مع أميركا ورؤسائها ومسؤوليها، ويستفيد، في الوقت نفسه، من مواقف دول عربية "إبراهيمية"، وأخرى "غير إبراهيمية"، لكنّه يتحدّث عن تعاون كبير معها أمنياً وسياسياً، وهذا مفيد له جدّاً في هذه المرحلة، إلى أن تأتي الساعة من أجل التطبيع الكامل، لكنّه ليس مصرّاً على عامل الوقت، ولا على التنفيذ الفوري لهذه الخطوة، ما دام يأخذ ما يريد، ويغطّي ما يريد، وينفّذ ما يريد، ويبقى ملك إسرائيل المتوّج وحلمه؛ بن غوريون الثاني. الأول هو المؤسّس، والثاني مكرّس "إسرائيل الكبرى"، والأكثر قدرة وتأثيراً في المنطقة. هل فكّر العرب أين سيكونون لاحقاً؟... القادر على منح خمسة آلاف مليار دولار خلال أيّام لرئيس أميركا، فمن حقّ الناس أن تسأله: مقابل ماذا؟
لم يرَ بعضهم في سقوط الأسد وانتزاع هيئة تحرير الشام السلطة في دمشق سوى أحمد الشرع، وتجربته مع "القاعدة"، ثمّ هيئة تحرير الشام، فصارت القضية الرئيسة عندهم تتلخّص في محاربة الإرهاب والتطرّف والقيم السلفية. ومنهم من غضّ الطرف عن هذا الوجه، ونظر إلى ما حصل حلقةً أخيرةً من ثورة الحرية، واكتمالها بالقضاء على ما تبقّى من حكم الأسد وإرثه وبراميله ومجازره الدموية، فاعتبر الشرع محرّراً، بل مخلّصاً. ومنهم من نظر إليه باحثاً عن مُلكٍ واعتبر استئثاره بالسلطة مقدّمةً لتجديد عصر الديكتاتورية الفردية ونظمها، ولو بوجهٍ مختلف. ومنهم من نظر إلى مجيئه إلى السلطة بوصفه إحدى أدوات الصراع على النفوذ في سورية، بين تركيا وايران والسعودية وإسرائيل، فاخترع الهُويَّة الأموية حين كانت دمشق عاصمة أكبر إمبراطوريات زمانها. ومنهم من رأي فيه تأكيداً لانتصار الأصولية الإسلامية على الأيديولوجيات الحداثية العلمانية والغربية، وتعميم القيم السلفية على شعبٍ متنوّع الأعراق والأديان والمذاهب، وتهديد وحدة المجتمع السوري وسلامته. وفي هذه الحالة، اعتبر هؤلاء أن السكوت عن السلطة الجديدة، أو السماح لها بالاستقرار، يعني خسارة معركة الحداثة والتحديث والعلمانية والدولة الديمقراطية والوطنية.
والواقع أن ما حصل كان فيه من ذلك جميعه، فكلّ واقع يتشكّل من عقدة من العلاقات وأنماط من التفاعلات، تجعل منه ظاهرةً مركّبةً تسمح بتأويلاتٍ وتحديداتٍ متعدّدة، بحسب ما يركّز فيه الملاحظ من أوجه أو مُخرجات. هكذا انطوى سقوط الأسد على تحوّلٍ لمصلحة الأيديولوجيات الإسلاموية السلفية، وأنتج سلطةً سياسيةً جديدةً تغيّرت في سياقها (أيضاً) التوازنات الطائفية على الصعيدَين الوطني والإقليمي، وعبّر عن تغيير جيواستراتيجي نقل سورية من "محور المقاومة" و"العداء للإمبريالية"، المنهار، إلى المحور العربي، المحافظ، في الخليج وفي تركيا. كما فتح على صعيد العلاقات الدولية طريق التفاهم مع الولايات المتحدة، وربّما التطلّع إلى التحالف معها. وبينما تخوّف بعضهم من إقامة نظام يهدّد وجود الطوائف والأقليات الإثنية، أو يدينها بتهميش مديد، حتى لو لم تكن شريكةً للأسد في ارتكاب الجرائم والانتهاكات الخطيرة السابقة، راهن آخرون على عداء الغرب للسلطة الجديدة اعتقاداً أنه لن يقبل بتسليم سورية، وهي دولة ذات موقع مركزي شديد الحساسية في الشرق الأوسط، إلى سلطة هيئة سلفية.
انهيار الشرق الأوسط القديم:
في الواقع، ما سمح للشرع و"هيئة تحريره" بإسقاط نظام الأسد، والحلول محلّه بعد 14 عاماً من الكفاح الدامي والمُحبط لشعب بأكمله، ليس بالدرجة الأولى العقيدة السلفية، ولا القوة العسكرية الخارقة، ولا العصبية الطائفية، ولا الشعبية الجماهيرية، ولا حبّ الزعامة، وكلّها كانت موجودة أيضاً، وإنما انهيار التوازنات الإقليمية التي حكمت على سورية بأن تكون عقوداً طويلةً منطقة عازلة، وإلى حدّ كبير منزوعة السلاح، بين خصمَين تنازعا الهيمنة العسكرية على المشرق، إيران وإسرائيل. فعلى هذا الصراع عاش نظام الأسد، ومنه استمدّ سبب وجوده وبقائه. فقد مثّل هذا الوجود مصلحةً لإسرائيل التي ضمنت حياد سورية وتحييدها، وضمّ الجولان المحتلّ. ومصلحة مماثلة لطهران، التي جعلت من سورية واسطةَ العقد في مشروع الهلال الشيعي، الذي بفضله أرادت فرض سطوتها وهيمنتها الإقليميتَين. هكذا ضمنت "سورية الأسد" للطرفَين خوض نزاع مضبوط وموزون، يحقّق لكليهما ما يحتاجه من استعراض القوة لتأكيد الهيمنة وعدم التورّط في حرب مباشرة كُبرى، واستمداد الشرعية المحلّية أو الدولية للتوسّع الجغرافي والاستراتيجي على حساب جميع دول الإقليم الأخرى.
كان منطلق هذا الانهيار خروج الصراع المدروس عن السيطرة مع انفجار "طوفان الأقصى" (7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023) في غزّة، الذي سرعان ما تحوّل حرباً إيرانية إسرائيليةً بالوكالة، ذهب ضحيّتها خلال أشهر قليلة عشرات آلاف القتلى والجرحى، كما فقد فيها حزب الله، وهو الجيش الرئيس لطهران في هذه المواجهة التكتيكية، قياداته التاريخية. وخسارة الطرفين، طهران وتلّ أبيب، هذه الحرب غير التقليدية، أخرجتهما عملياً، ورغم استمرار إسرائيل في القتال (بل أيضاً بسببه)، وأدّت إلى خسارتهما كليهما الرهان، أي السيطرة على الشرق الأوسط وقيادته، وفرض أجندتيهما القوميتَين على جميع دوله وشعوبه، فقد تجلّى في هذه المعركة ضعف الاستراتيجية الإيرانية التي وضعت كل رهاناتها على مليشيات تابعة، أبرزها حزب الله، كما تجلّى عجز إسرائيل البنيوي عن تحقيق انتصار حاسم وسريع، حتى أمام قوة محدودة العدد والتسليح مثل حركة حماس. وبينما فقدت إيران أذرعها المسلّحة في لبنان وسورية وانحسر نفوذها إلى العراق، انهارت عقيدة إسرائيل الاستراتيجية المبنية على أسطورة فائض القوة وقوة الردع، القادرة على مواجهة جميع دول المنطقة منفردة ومجتمعة. كما أفقدتها حربها الإبادية، التي لم تستطع حسمها ولا هي قادرة على قبول خسارتها فيها، ما كانت قد جمعته من "الرصيد الأخلاقي والمعنوي" الذي كانت تراهن عليه، وسمح لها منذ 77 عاماً بالعمل خارج القانون الدولي، وضدّه، بوصفها الدولة الضحية، التي يمثّل وجودها (وبالتالي الحفاظ عليه) التعويض العادل عن جريمة اللاسامية والإبادة النازية.
وبينما انكفأت طهران إلى حدودها، وغرقت تلّ أبيب في وحل حربها الإبادية المستمرّة، احتلّت الفراغ الذي تركه انهيار القوتَين المتنافستَين (تلقائياً تقريباً) قوّتان إقليميتان جديدتان، دول الخليج العربي الغنيّة التي أصبحت طرفاً بارزاً في الاقتصادات العالمية بعد النهضة الاقتصادية الكبيرة التي شهدتها السعودية، والجمهورية التركية التي تحوّلت في عهد رجب طيب أردوغان لاعباً إقليمياً ودولياً رئيساً في الشرق الأوسط، بعد إنجاز ثورتها الصناعية، وتطوير قوتها العسكرية أيضاً، في العقود الثلاثة الماضية.
من مسرح حرب إقليمية دائمة إلى جسر للتواصل والسلام:
دفعت عدة عوامل إلى الجمع بين دول الخليج، وفي مقدمها السعودية، وتركيا، أبرزها تحالفهما المشترك مع الكتلة الأطلسية، والولايات المتحدة بشكل أخص. لكن ما هو أهم، وما جعلهما قوتَين مبادرتَين ولاعبَين إقليميَّين نشطَين، نجاحهما في بناء اقتصادات قوية مؤثّرة في الاقتصاد العالمي، والأكثر أهمية تجاوزهما منطق التبعية في العلاقات الدولية، واكتسابهما نزعةً استقلاليةً تعزّز التفكير لدى نُخبهما السياسية بالدفاع عن مصالحهما الوطنية. والواقع أن التقارب بين القوّتَين العربية والتركية لم ينشأ بعد "طوفان الأقصى"، وإنما مع بداية الثورة السورية عام 2011، واستمرّ التعاون بينهما في الأعوام الماضية بشكل وثيق في إدلب وشمالي سورية. وكان مشروع "ردع العدوان"، الذي تحوّل إلى "فجر الحرية"، استمراراً لهذا التعاون، الذي أتاح لهما استعادة المبادرة والقضاء على النظام السوري السابق الذي فقد وظيفتيه، الخارجية والداخلية، ولم يعرف كيف يتجاوب مع انهيار أوضاعه السياسية والاستراتيجية.
أصبح خروج إيران من دائرة التنافس على قيادة الإقليم واضحاً اليوم، فقد خسرت طهران حربها التوسّعية والهيمنية نهائياً، وما يجري اليوم من حوار مع واشنطن والغرب محاولة لنزع سلاحها بالمفاوضات بعد الضربة القاصمة لأذرعها العسكرية. أمّا إسرائيل التي سقطت في وحل حرب خسرتها سياسياً، ولا تزال غير قادرة على أن تنهيها بعد 19 شهراً، فقد قضت على أيّ أمل لها بلعب دور إقليمي قيادي مهما كان نوعه في المنطقة، بالرغم من التفوّق العسكري الساحق الذي تمتلكه، وتحوّلت قوّة تخريب وإرهاب وزعزعة للاستقرار في نظر موكّليها الكبار أنفسهم. وقد أظهرت جولة الرئيس الأميركي في المنطقة، منتصف الشهر الجاري (مايو/ أيار)، أن التوجّه العام، في واشنطن والغرب عموماً، إلى الحفاظ على مصالحهما وتعظيمها، لم يعد في المراهنة على استدامة حالة التوتّر والحرب، التي صيغت على أساسها إسرائيل واستثنائيتها، وواجب انتصارها مهما كان الخصم، وإنما على تطوير المصالح الاقتصادية المشتركة، وبالتالي، بسط الاستقرار والأمن إلى حدّ كبير، والاعتماد في ذلك على أبرز قوَّتَين صاعدتَين، تركيا وبلدان الخليج، وفي مقدمها السعودية. وفي هذا السياق نفسه، تغيّرت مكانة سورية في الصراع الإقليمي ودورها من النقيض إلى النقيض، فبدلاً من أن تبقى منطقةً عازلةً بين طهران وتل أبيب، وبالتالي مسرح حرب مفتوحة بوتيرة محدودة تضمن مصالح الطرفَين، يراد لها أن تكون منطلق إعادة تشكيل الشرق الأوسط الجديد، ليس كما أراد له بنيامين نتنياهو أن يكون تحت سيطرة إسرائيل وخدمةً لمصالحها، وإنما على النقيض من ذلك تماماً، حلقة تواصل وجسراً للسلام الإقليمي المأمول، ومركزاً للتفاهم والتعاون بين دول المنطقة جميعاً. وهذا هو المعنى الاستراتيجي لرفع واشنطن العقوبات وإعطاء سورية فرصةً للعب دورها الجديد.
لقد أظهرت حرب غزّة حدود الرهان على التفوق العسكري وحده في تحقيق الأهداف السياسية، ولم تنجح في تجنيب إسرائيل خوض حرب إبادة جماعية لا تزال مستمرّةً، ربحت فيها عسكرياً، لكنّها خسرت فيها حصانتها السياسية والأخلاقية، وتكاد تتحوّل بسببها دولةً منبوذةً بالرغم ممّا كانت تتمتّع به من رعاية عالمية استثنائية. في المقابل، غيّرت التحوّلات الاقتصادية الكبيرة في السعودية ودول الخليج، والنجاحات الاستثنائية التي حقّقتها هذه الدول في العقدَين الماضيَّين، من مقاربة المؤسّسة الأميركية في ما يتعلّق بالحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في المنطقة. فصار الاستثمار في الشراكة والتعاون مع بلدان الخليج الغنّية، وتركيا، أكثر فائدةً وتعظيماً للأرباح وجذبَ الاستثمارات، في نظر إدارة ترامب، من الرهان على إسرائيل قاعدةً عسكريةً مدجّجةً بالسلاح لتحييد البلدان العربية وابتزازها. ولهذا السبب أيضاً، صارت تكاليف الدعم المطلق والدائم لإسرائيل من أدوات السيطرة على المنطقة بوسائل التهديد والحرب أعلى بكثير ممّا تضمنه من مكاسب. أضف إلى ذلك ما أدّى إليه الدعم المطلق وغير المشروط لحكومات إسرائيل من تغذية أطماعها التوسّعية من دون حدود، وجعلها تنزع إلى الاستقلال في سياستها بشكل أكبر عن واشنطن وأجندتها الإقليمية. لن يعني هذا أبداً أن الغرب سوف يتخلّى عن دعم إسرائيل والدفاع عنها، وإنما لن تكون مصالح إسرائيل وحدها التي تحدّد الخيارات الاستراتيجية والسياسية للكتلة الغربية في المنطقة العربية.
شكّل هذا التحوّل انقلاباً حقيقياً في العلاقات الدولية في المنطقة، فقد عاش الشرق الأوسط منذ نشوء إسرائيل على وقع تماهي السياسات الغربية مع سياسة تلّ أبيب والالتزام الدائم السياسي والأخلاقي بتعزيز قوّتها وتمويل حروبها مهما كان الثمن، ليس ضدّ الفلسطينيين فحسب، ولكن ضدّ الأقطار المجاورة جميعاً. وهذا ما أحدث هوّةً كبيرةً بين الغرب والبلدان العربية، وكان يقف وراء سياسة السعي إلى تحييدها وتفريق صفوفها وتقييد تقدّمها في جميع المجالات التقنية والصناعية والسياسية، حتى لا تؤثّر في تفوّق إسرائيل وأمنها واستقرارها. وتغيّر هذا الموقف، بمقدار ما يعني تقليص دور إسرائيل في تحديد سياسات الغرب في المنطقة، سيقود إلى إعادة بناء علاقات أكثر توازناً مع البلدان العربية. وهذا ما يثير قلق إسرائيل، الذي تعبّر عنه بالاعتداء المتكرّر على سورية، منطلق هذا التحول في السياسة الشرق أوسطية، وباحتلال مزيد من أراضيها، والدعوة السافرة إلى تقسيمها.
ستكون لهذا التحول إن ثبت انعكاسات في عموم أقطار المنطقة، تخسر إسرائيل فيه (شيئاً فشيئاً) الرعاية الاستثنائية التي تمتّعت بها خلال العقود الطويلة الماضية. وإذا وفّى الرئيس ترامب بوعده في الاعتراف بدولة فلسطينية، مهما كان وضعها، ربّما يصبح الطريق معبّداً لتحقيق المزيد من التقدّم في بسط السلام والأمن، وبالتالي إلى إحلال منطق التعاون والعمل من أجل التنمية المشتركة في عموم دول المنطقة. وربّما يفتح الطريق إلى إقامة منظّمة إقليمية للأمن والتعاون والتنمية على مستوى الشرق الأوسط، تعيد للمنطقة مكانتها الحقيقية ووزنها في العلاقات الدولية. وهذا ما تحتاجه شعوبها لمواجهة آثار الدمار الذي ألحقه بها الصراع الطويل على السيطرة بين قوَّتَين سلبيَّتَين، إسرائيل وإيران، جمع بينهما التمحور حول الذات وتجاهل مصالح الدول والشعوب الأخرى جميعاً، والسعي إلى التقدّم على حسابها.
أي مستقبل للديمقراطية:
في هذا المسار الإقليمي الجديد، يحاول أن يتموضع نظام أحمد الشرع الجديد، إن لم تكن ولادته جزءاً من هذا المسار. وإدراك هذا التحوّل والجرأة على الانخراط فيه هو الذي أوصله إلى دمشق، وضمن له الانتصار العسكري اللافت، كما ضمن لنظامه سرعة الاحتضان من الدول المعنية بهذا التغيير الاستراتيجي الكبير. وهذا ما يفسّر لماذا لم تلقَ الأخطاء التي أشار إليها (وفي أحيان كثيرة بحقّ) ناقدوه، في ما يتعلّق بسياساته الداخلية وتقاسم السلطة، أو بالأحرى الاستئثار بها، صدىً كبيراً في المحيطين، الإقليمي والدولي، ولا لدى الجمهور السوري، الذي أدرك بالحسابات البسيطة أن القضية أبعد من انتصار طائفة على طائفة أو أيديولوجية سلفية على أيديولوجية حداثية أو تقدّم مواقع أكثرية على أقلّيات. لقد كان الصراع على سورية، التي تمثّل قلب الشرق الأوسط الحي وملتقى توازناته محور صراع أكبر على السيطرة الإقليمية، أشدّ أثراً في تقرير مصير بلدانها من أثر الصراعات والحسابات الداخلية، وسوف يبقى على الأغلب زمناً طويلاً، فهو يندرج في صراع جيواستراتيجي أشمل، لا يكاد يبدأ، يغذّيه صعود الصين اللافت، وتقدّمها في ميادين الصناعة والتجارة والتقنية الحديثة والذكاء الاصطناعي، المستمرّ منذ أكثر من عقدَين، وبروزها ندّاً منافساً الولايات المتحدة التي تربّعت على عرش الهيمنة العالمية، على الصعد، الاقتصادي والتقني والعلمي، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في منتصف القرن الماضي. وهو الصراع الذي دفع إلى المؤخّرة العداء القديم بين الغرب الأطلسي والشرق الأوراسي، كما أدّى إلى إضعاف حلف الأطلسي (ناتو)، وربّما تفكيكه في المستقبل لصالح نشوء تحالفات دولية جديدة أكثر أهمية وديمومة. ومنذ الآن، يبدو أن الشرق الأوسط أصبح أكثر أهميةً من الناحية الاستراتيجية من أوروبا في هذا التنافس العالمي الجديد.
من هنا، يمكن أن نفهم النجاح السريع الذي حقّقه "انقلاب" الشرع، والترحيب الكبير الذي لقيه في العالم العربي خاصّة، وفي أوروبا وأميركا والعالم. ومنه نفهم أيضاً توجّس الإسرائيليين وخوفهم من تراجع دعم واشنطن التاريخي غير المشروط لمشاريعهم التوسعية والإبادية، ونفهم أيضاً ضياع بوصلة أوروبا، وتردّدها، وخسارتها نفوذها في الشرق الأوسط.
والواقع ان أوروبا تدفع ثمن خطئها الكبير في العقود الماضية، عندما لم تشأ أن ترى في المشرق والعالم العربي سوى آبار نفط، وقوافل جمال مفيدة للصور السياحية، وخامات رخيصة، ومهاجرين بأجور زهيدة، وفشلت في أن تعيد النظر في تعاملها مع هذه المنطقة شعوباً طامحةً في التقدّم والبناء والاندماج في مسار المدنية الحديثة. هكذا فشلت في توطيد أسس قوية للتعاون معها وتحويلها شريكاً رئيساً ومتميّزاً في علاقاتها الدولية، وراهنت في المقابل على إسرائيل للإبقاء على نفوذها في البلاد العربية، والدفاع عمّا تسميه مصالح استراتيجية. ولو نجحت في تعديل نظرتها، لجعلت من العالم العربي شريكاً اقتصادياً كبيراً ومربحاً في مواجهة إعادة تشكيل التكتّلات والتحالفات الدولية. لكنها استمرّت في تجاهل تطلّعات الشعوب العربية، والتقليل من إمكاناتها وقدراتها على التقدّم في طريق التنمية الحضارية. على أوروبا اليوم أن تركض بسرعة حتى تستدرك بعض تخلّفها عن ركب التحوّلات الإقليمية والعالمية، ولكيلا تترك الولايات المتحدة تقطع الطريق عليها.
في النتيجة، أي أثر لهذه التحوّلات الإقليمية والدولية في تطوّر الوضع السوري الداخلي، الذي هو اليوم أكثر ما يشغل الرأي العام السوري؟... دخلت سورية في معادلة إقليمية ودولية تتجاوز رهاناتها مسألة توزيع السلطة السورية، والمشاركة فيها، وتخضع في حساباتها وأشكال تطوّرها والتعبير عنها بدرجة أكبر لعوامل تتعدّى إرادة السوريين أنفسهم، نظاماً وجماعات معاً. وبمقدار ما سيُعاد دمج الأقطار التي تخلّفت عن هذا الركب (منها سورية ولبنان بشكل خاص بسبب تغوّل المشروعَين الإيراني والإسرائيلي عليها) في الاقتصاد الإقليمي القائم الذي يقوده الخليج العربي منذ عقود، الغني بالموارد النفطية، سوف تسيطر على توجّهاتها الخيارات النيوليبرالية والاقتصادية السائدة فيه، أي تقدّم مجتمع المال والأعمال والتجارة والاستهلاك على جميعَ القيم الأخرى. وللأسف! لن تكون الديمقراطية الهمّ الأوّل للنُخب الاجتماعية، وإنما المصالح والمصائر الشخصية، وتقليد الغرب في كلّ شيء، كما هو الحال في المدن الخليجية الناهضة من العدم، وربّما تتحول دمشق إلى رياض أو دبي أو أبوظبي أخرى، على عكس ما كنّا نأمله من نمط تنميةٍ أكثر إنسانية وانسجاماً مع الطبيعة والبيئة والثقافة والهُويَّة الاجتماعية. لكن، من يدري، ربّما هذا ما تحلم به النُّخبة السورية الصاعدة في دمشق وبيروت وعمّان وبغداد وبقية مدن المشرق، كما حلمت به نُخب الخليج من قبل. ودمشق التي كادت تتحوّل عاصمةً لـ"الشيعية السياسية" في العقود الماضية، سوف تصبح ربّما درّة العقد في هذه الحداثة العربية الخليجية الراهنة، إذ يقود الجميع حلم التقنيات المتقدّمة، والانخراط في العالم، والبحبوحة الاقتصادية، والرفاه الاستهلاكي، وتتحوّل المدن الشرقية الجميلة غاباتٍ من ناطحات السحاب المصنوعة من الحديد والإسمنت المسلّح والزجاج.
ليس هذا ما كان يتمناه جيلنا الذي قادته قيم الحرية والعدالة والمساواة والسيادة والازدهار والإبداع الفكري والسمو الروحي والمعنوي. لكن هذا ما قضت به الأحداث، وحمل به التاريخ، الذي مهما كانت إرادتنا قوية وتضحياتنا كبيرة، ما كان من الممكن (وليس بإمكاننا) أن نصنعه بمفردنا ولا على هوانا، لا نحن ولا أعداؤنا. فهو ثمرة تفاعلات أشمل وأبعد غوراً، وأكثر تعقيداً ممّا تفيده النظريات الجاهزة، وتتصوّره الأيديولوجيات الحالمة من قواعدَ وقوانين.
وعلى الصعيد السياسي، غيّر هذا التوجّه (أكّده رفع العقوبات) حسابات الأطراف المتنازعة، وغيّر المزاج العام. وبمقدار ما طمأن النظام على مستقبله، وعزّز شرعيته أمام شعبه، وأحبط إرادة التمرّد عليه، أعطى للأطراف التي خافت من تطرّفه، وأظهرت الشكّ في خطابه، ما يشبه الضمانات الدولية بمراقبة سلوك أطرافه وقيادته إلى الاعتدال. أمّا في ما يتعلّق بحلم الديمقراطية القديم والدائم، فأنا أرى أنه لا توجد سلطة، حتى تلك المنبثقة من انتخابات شرعية، تلتزم بمبادئ الديمقراطية، إن لم تجد في مواجهتها قوىً اجتماعيةً منظّمةً وأفراداً أحراراً يدافعون عنها ويضحّون من أجلها. ولا ينبغي أن تقتصر هذه النُّخبة على مجموعة صغيرة من الناس الأحرار، وإنما تحتاج إلى أن يتمثّل الجمهور أو جزء كبير منه معنى الحرية، وهنا يكمن دور المثقّفين والسياسيين الديمقراطيين وواجبهم. من دون ذلك، وفي غياب قوىً اجتماعية منظّمة وحيّة، يسهل على أي حكومة (في منطقتنا بشكل خاص) أن تكسب النُّخب الاجتماعية بمقايضة المشاركة السياسية بالمشاركة الاقتصادية، وتقاسم الريوع والأرباح.
ارسال التعليق