قالوا وقلنا
متى يغادر العرب دائرة التنديد
بقلم: ياسر قطيشات...
عُقدت في الدوحة قمّة عربية وإسلامية طارئة، عقب الاعتداء الإسرائيلي المباشر على الأراضي القطرية مطلع سبتمبر/ أيلول الحالي. وقد توقّعت الشعوب العربية والإسلامية أن تشكّل هذه القمّة لحظة حاسمة للانتقال من بيانات التنديد إلى إجراءات عقابية حقيقية معقولة، مثل: خفض مستوى التمثيل الدبلوماسي، تجميد اتفاقيات التطبيع، أو تفعيل أدوات المقاطعة الاقتصادية، أو إغلاق الأجواء في وجه الطيران الإسرائيلي...إلخ، لكنها لم تتخذ أيّ إجراء ممّا سبق! رغم أنّها أدوات مشروعة في القانون الدولي ولا تحتاج إلى مواجهة عسكرية مباشرة.
في المقابل، جاءت النتيجة مُخيّبة: بيانات قويّة في اللغة وضعيفة في الفعل، ما أثار تساؤلات جوهرية حول حدود الإرادة السياسية العربية والإسلامية، ولماذا تكرّس العجز الجماعي في مواجهة انتهاك صريح وجديد لسيادة دولة عربية خليجية.
بدايةً، تفتقد المنظومة العربية، وكذلك الخليجية، آليات عمل جماعي مُلزمة؛ إذ تتعامل كلّ دولة مع الأزمات وفق مصالحها الضيّقة، ما يجعل التوافق على خطوات موحّدة شبه مستحيل، هذا الخلل المؤسّسي يُنتج استجابات شكلية (بيانات مشتركة) بدلاً من قرارات تنفيذية، وفي حالة قمة الدوحة، ظهر الانقسام واضحاً بين دول ترى في التصعيد مع إسرائيل تهديداً لمشاريعها الاقتصادية أو لعلاقاتها الناشئة مع تل أبيب.
ويرتبط جزءٌ من الدول الخليجية والعربية مع إسرائيل باتفاقيات تطبيع مباشرة أو عبر شراكات اقتصادية، واتخاذ إجراءات عقابية سيؤدي إلى كُلف سياسية واستراتيجية على تلك الدول، وهو ما جعلها تفضّل "لغة التضامن الرمزي" على خطوات عملية قد تهدّد مصالحها التجارية والاستثمارية، وهكذا تحوّل الدفاع عن السيادة الجماعية إلى رهينة لحسابات اقتصادية آنية.
ولا يمكن تجاهل حقيقة أنّ دول الخليج تعتمد على الولايات المتحدة ضامناً أمنياً ضدّ التهديدات الإقليمية، وأيّ تصعيد فعلي ضدّ إسرائيل (الحليف الاستراتيجي لواشنطن) قد يُفسَّر تصعيداً ضدّ الولايات المتحدة نفسها، هذا الاعتماد جعل سقف الرد محكوماً بمحدودية المناورة، وأنتج لغة بيانات لا تتجاوز حدود "التنديد" اللفظي.
كما أنّ التحرّك عبر مجلس الأمن أو المحاكم الدولية يحتاج وقتاً وغطاء دولياً غير مُتوافر، خاصة مع دعم الولايات المتحدة لإسرائيل، هذا ما يفسّر لجوء القمم إلى خطاب سياسي مفتوح بدل خطوات قانونية أو عملية قد تُواجه بالفيتو أو بالتجاهل، والنتيجة كانت مخرجات باردة لا ترقى إلى حجم الحدث.
هنا، يظهر سؤال الإرادة: هل الخوف من ردّة فعل واشنطن هو ما يقيّد القرار العربي، أم أنّ الأمر يتعلّق بشراكة وظيفية بين بعض القوى العربية (الأنظمة) والولايات المتحدة وإسرائيل تجعلها ترى في التصعيد تهديداً لها ولمصالحها المشتركة؟
من منظور نظريات العمل الجماعي، تمثّل الحالة نموذجاً لما يُعرف بـ"المعضلة الجماعية": كلّ طرف يفضّل أن يتحمّل الآخر كلفة الرد، بينما يكتفي هو بالمكاسب الرمزية، النتيجة أنّ أحداً لا يتحرّك بجدية، وتبقى القرارات في دائرة الرمزية، هذه المعضلة تعكس غياب قيادة إقليمية قادرة على تحمّل المخاطر وتوجيه الموقف نحو خيارات عملية.
وما جرى في الدوحة ليس معزولاً؛ من الناحية النظرية، ويمكن أن يتكرّر في أيّ عاصمة عربية أخرى، طالما أنّ إسرائيل تعتبر نفسها فوق قواعد السيادة الوطنية والقانون الدولي. واستمرار ردّة الفعل العربية عند مستوى البيانات، يجعل من تكرار الاعتداءات أمراً شبه مرجّح.
بكلمات أخرى: لم يكن فشل القمة في تبنّي إجراءات عقابية حقيقية مجرّد ضعف تكتيكي، بل انعكاساً لبنية سياسية وأمنية تجعل من الصعب على الدول العربية تجاوز بيانات الإدانة، لقد اختارت الأنظمة الرسمية "الرشد العملي" القائم على تجنّب التصعيد مع إسرائيل والولايات المتحدة، وفضّلت "الواقعية السياسية"، حتى في الخطاب الرسمي، على لغة التهديد! حتى لو كان على حساب مصداقيتها أمام الشعوب وسيادتها القومية.
ويبقى السؤال الكبير مفتوحاً: في أيّ حالة سيُغادر العرب دائرة التنديد إلى التهديد والتنفيذ؟ فإذا كان انتهاك سيادة دولة خليجية لم يكسر دائرة "الإدانة دون فعل"، فما الذي يمكن أن يكسرها؟ هل هو تصعيد إسرائيلي أكبر يهدّد أمن العواصم العربية والخليجية مباشرة، أم استهداف البنى التحتية الحيوية في الخليج (موانئ، منشآت طاقة، مراكز مالية)، أم تغيّرٌ في موازين القوى الدولية يُتيح للعرب بدائل أمنية غير أميركية، أم نهضة وعي "شعبي جارف" تضطر الأنظمة إلى التحرّك تحت ضغط الشارع؟
ما جرى في الدوحة من اعتداء إسرائيلي قد يكون إنذاراً مُبكّراً لعواصم أخرى، والرد العربي الضعيف قد يُفسَّر في تل أبيب كدعوة للاستمرار، وهنا تكمن خطورة الموقف: أن يتحوّل العجز إلى ضوء أخضر مفتوح لاعتداءات مقبلة.
ارسال التعليق