مفارقة مضحكة رياض بين بريق الترفيه وتكلفة إسكات الأصوات
تستضيف الرياض حتى التاسع من الشهر الجاري، أول مهرجان للـStand-up بهذا الحجم، بقوائم تضم أسماء عالمية بارزة وسط واقع من كوميديا تحت القيود.
إذ أنّ “مهرجان الرياض للكوميديا” لا ينعقد في فراغ؛ بل على مرمى أيام من الذكرى السابعة لقتل الصحفي جمال خاشقجي (2 أكتوبر/تشرين الأول 2018)، وفي ظل انتقادات حقوقية متصاعدة لقيود التعبير داخل المملكة.
هنا تتبدّى المفارقة المركزية: بلد يفتح منصاته لأجرأ فنّ السخرية في العالم، فيما يقيّد في الداخل مساحة السخرية والانتقاد السياسي، ويلاحق صحفيين ومدونين ومواطنين بسبب تعبير سلمي.
من حيث الشكل، يندرج المهرجان في سياق استثمارات الترفيه الضخمة ضمن رؤية 2030؛ حضور نجوم عالميين، حفلات كاملة العدد، وتذاكر باهظة تعكس رهانات السعودية على القوة الناعمة.
وبحسب منظمات حقوقية، بينها القسط، فإن هذا الانفتاح الترفيهي يطرح سؤالًا جوهريًا: هل يمكن لفن يقوم على تجاوز “الخطوط الحمراء” أن يزدهر في بيئة تحدد خطوطًا لا تُرى؟
وعبر عدد من الكوميديين الغربيين الذين لم يشاركوا، علنًا عن تحفظات على سجل الحقوق في السعودية.
وتفيد روايات متداولة بأن أحد الكوميديين أزيح من البرنامج بعد تعليقات ناقدة، فيما قالت كوميدية أخرى إنها رفضت الدعوة بعد الاطلاع على قائمة قيودٍ تحظر التطرق لـ“سمعة القادة” وموضوعات حساسة. إن صحّت هذه التفاصيل—وهي محل ادعاءات حقوقية—فإنها تقوّض الفرضية الأساسية للكوميديا: الحرية.
تُذكّر منظمات حقوقية بأن حرية التعبير داخل السعودية ما تزال مقيدة. تُوثّق تقارير حقوقية حالات احتجاز بسبب تعليقات أو محتوى ساخر على منصات التواصل، إلى جانب منع سفر وملاحقات قضائية مطوّلة.
وتؤكد جهات حقوقية أنّ عام 2025 شهد وتيرة إعدامات مرتفعة، بينها قضايا مخدرات غير عنيفة وعدد من الأجانب؛ كما أثيرت مخاوف جدية بخصوص ملفات قاصرين على ذمة أحكام إعدام—وهي اتهامات تقول السلطات إنها تراجعها ضمن أطرها القانونية.
هذه الوقائع—بحسب جهات حقوقية—تجعل من استضافة مهرجان سخرية عالمي اختبارًا رمزيًا: هل ستسمح الرياض لمن يصعدون منصاتها بأن يعكسوا الحريات التي يتطلبها فنّهم؟ أم أن “الضحك” سيظل محصورًا ضمن نصوص متفق عليها سلفًا؟
بالنسبة لصناع القرار السعوديين، يحمل المهرجان قيمة علامة: مدينة كوزموبوليتانية قادرة على استضافة نجوم واستقطاب سياحة ثقافية. لكن القيمة ذاتها تتحول إلى نقطة ضغط؛ إذ تدعو منظمة القسط الكوميديين المشاركين لاستخدام المنصة لإثارة قضايا “محددة وملحّة”، مثل حالات محتجزين تعسفيًا أو مهددين بالإعدام.
من جانب الكوميديين، يواجه بعضهم سؤالًا أخلاقيًا مألوفًا في عصر “الغسل الثقافي”: هل المشاركة تتيح مساحة تأثير وفرصة لإيصال رسائل ضمنية إلى جمهور محلي—أو حتى أصحاب قرار—أم أنّها تساهم في تلميع سجلّ ما زال محل انتقاد؟ ليست الإجابة واحدة للجميع. بعض الفنانين يختارون المقاطعة المبدئية، وآخرون يراهنون على “المداخلة من الداخل” عبر مزاح ذكي وتلميح محكوم بخطوط العرض المحلي.
تستثمر السعودية بكثافة في الرياضة والترفيه لتسريع التنويع الاقتصادي وتغيير الصورة الذهنية عالميًا. لكن الصناعة الإبداعية—بخلاف مشاريع البنية التحتية—لا تُشترى وحدها بالمال؛ هي تحتاج إلى بيئة تَسامُحٍ مع الأسئلة الصعبة.
وإذا أرادت الرياض أن تصبح وجهة دائمة لمواسم الكوميديا، فستجد أن الحرية ليست رفاهية ثانوية، بل بنية تحتية غير مرئية لازمة لازدهار هذا الفن.
عمليًا، يمكن للسلطات أن تحوّل المفارقة إلى ميزة عبر خطوات ملموسة: توسيع هامش النقد السلمي، مراجعة التشريعات الفضفاضة (خطاب الكراهية/الإرهاب) التي تُستخدم لتجريم الرأي، والتوسع في بدائل الاحتجاز، والالتزام العلني بمعايير المحاكمة العادلة. عندها فقط يصبح المهرجان امتدادًا طبيعيًا لتحول ثقافي، لا ديكورًا ينفصل عن الواقع.
التسمية دون تسميم: إدراج قضايا الحقوق كإشارات ذكية داخل العروض، تحترم السياق لكنها لا تُفرّغ الرسالة.
التضامن خلف الكواليس: لقاء عائلات محتجزين أو منظمات حقوقية، أو إدراج تبرعات وأعمال داعمة بعيدًا عن المسرح.
الشرط الأخلاقي: جعل المشاركة مشروطة بمساحة فنية واضحة—حتى إن بقيت خطوط حمراء—وبشفافية حول أي قيود مكتوبة في العقود.
وعليه فإن مهرجان الرياض للضحك مرآة حادة يعكس ما إذا كانت رؤية 2030 قادرة على التوفيق بين الانفتاح الاقتصادي والانفتاح المدني. الكرة في ملعب طرفين: سلطةٍ تستطيع أن تُثبت أن الاستثمار في الترفيه لا يتعارض مع حماية التعبير السلمي، وفنانين يستطيعون أن يثبتوا أن الشجاعة المهنية لا تتوقف عند بوابات المسرح.
عند هذه النقطة، يصبح الضحك مؤشرًا لا لمستوى الإنتاج فقط، بل لمدى سعة الصدر مع الفكرة الساخرة… في قاعة العرض وخارجها.
ارسال التعليق