
"السعودية" ونتنياهو..جبهتان متزامنتان ضد غزة والمقاومة اللبنانية
[عبد الرحمن الهاشمي]
بقلم عبد الرحمن الهاشمي
لا يمكن النظر إلى التحرك السعودي في لبنان بوصفه خطوة محلية محصورة في حدود التنافس الانتخابي أو إعادة تشكيل التوازنات الداخلية، بل هو فعل سياسي متكامل الأبعاد، مرتبط عضويا بالسياق الإقليمي المتفجر وبالمعادلات التي يرسمها المحور الأميركي- الصهيوني في هذه اللحظة. التوقيت كاشف عن ذلك، وحيث يتقاطع التصعيد السعودي ضد حزب الله في الساحة اللبنانية مع إعلان بنيامين نتنياهو توسيع عملياته في قطاع غزة، في ذروة العدوان الدموي، بما يجعل المسارين جزءا من خطة واحدة تقوم على مبدأ خنق المقاومة في جبهاتها كافة، وضرب بيئتها السياسية والشعبية تمهيدا لعزلها أو جرّها إلى معركة داخلية.
المعطيات التي كشفتها بعض التقارير حول لقاءات المبعوث السعودي يزيد بن فرحان مع سمير جعجع ووليد جنبلاط ليست تفاصيل عابرة، بل مؤشرات إلى مستوى التدخل المباشر في صياغة التحالفات اللبنانية بما يخدم الهدف المركزي؛ إقامة جبهة سياسية متماسكة ضد حزب الله. فالمبعوث السعودي لم يكتفِ بدعوة حلفائه التقليديين إلى التنسيق الانتخابي، بل فرض خطوطاً حمراء واضحة، أولها منع أي تحالف أو حتى تقارب ظرفي مع سعد الحريري، ولو على مستوى الانتخابات النقابية، وثانيها التزام حزب سمير جعجع بالبقاء في حكومة نواف سلام وعدم التفكير في الانسحاب منها حاليا، باعتبارها منصة لمواجهة الحزب. هذا النوع من الإملاءات يعبّر عن إدارة ميدانية لموقع لبنان في الخطة الكبرى، حيث تبقى الحكومة غطاءاً سياسيا للهجوم على المقاومة.
الأخطر أن التحرك السعودي ترافق مع ممارسة ضغوط غير مباشرة على شخصيات وقوى سياسية لبنانية لثنيها عن أي تواصل مع حزب الله، ولو في إطار بروتوكولي أو حواري، عبر التلويح بقطع الدعم أو إغلاق قنوات العلاقة مع الرياض. هذه الممارسات تكشف عن ذهنية الوصاية التي تتحرك بها "السعودية" في لبنان، والتي ترى أن أي هامش للتفاهم أو التواصل مع المقاومة هو خطر يجب وأده فورا، حتى لو جاء على حساب ما تبقى من توازن داخلي هش.
وهنا تبرز أبعاد أعمق للدوافع "السعودية"، لا تتصل فقط بالاستجابة لتوجيهات الحليف الأميركي أو التماهي مع المخطط الإسرائيلي، بل أيضا بحسابات خاصة تراكمت عبر السنوات. فهناك بُعد انتقامي واضح مرتبط بمواقف حزب الله السابقة، وخاصة دوره في حرب اليمن حيث كان عاملا بارزا في كسر الرهان السعودي على حسم المعركة هناك. إلى جانب ذلك، تتطلع الرياض، في ضوء تحولات الإقليم، إلى إعادة رسم موقعها في المشرق العربي؛ فهي تعتبر أن سقوط نظام الأسد في سوريا يفتح أمامها فرصة حقيقية لخدمة مخطط الشرق الأوسط الجديد، ولذلك تسعى لانتزاع أوسع مساحة من النفوذ في سوريا ولبنان. هذه الطموحات، حين تُدمج بالتحالف الاستراتيجي مع واشنطن وتل أبيب، تتحول إلى جزء من مشروع أوسع هدفه إعادة هندسة الخريطة السياسية للمنطقة على نحو يُضعف قوى المقاومة ويعيد تثبيت مركزية الهيمنة الأميركية - الإسرائيلية.
هذا السلوك لا يمكن عزله عن اللحظة الإقليمية التي تشهد إعادة ترتيب الأولويات الإسرائيلية في ظل مأزق الحرب على غزة. فمع تعثر تحقيق الأهداف الميدانية، يصبح منطق تعويض الفشل بفتح جبهات ضغط بديلة هو الخيار الأرجح، وهنا يأتي الدور السعودي كأداة مثالية لخلق بيئة سياسية معادية للمقاومة في لبنان، تمهيدا لاستخدامها كورقة في الضغط الإقليمي. إن ما يجري هو إعادة إنتاج لأدوار سعودية سابقة في محطات تاريخية مفصلية؛ من تطويق التجربة الناصرية عبر استنزاف جمال عبد الناصر في المستنقع اليمني، إلى محاولة إجهاض أي مشروع تحرري عربي خارج المظلة الأميركية. واليوم، تتحرك السعودية في المشهد اللبناني بذات المنطق، مع فارق أن الغطاء هذه المرة هو خطاب "الاستقرار" و"السلام"، بينما الجوهر هو المشاركة في الحصار السياسي على رأس حربة المقاومة ضد اسرائيل.
إعلان وزير الخارجية الإيراني موقفا داعما لحزب الله في مواجهة المؤامرة على سلاحه، وتأكيد الموقف اليمني المنحاز للمقاومة، يعكسان إدراكا عميقا لطبيعة التحرك السعودي وخطورته على التوازنات الإقليمية. فالسعودية، بهذا المسار، لا تهدد فقط حزب الله كقوة لبنانية، بل تضع اتفاق بكين الهش أصلا على حافة الانهيار، إذ أن أي تصعيد ضد أحد أعمدة محور المقاومة لن يمر من دون تداعيات مباشرة على العلاقات السعودية ـ الإيرانية. وإذا أضفنا إلى ذلك الدور الخفي الذي لعبته الرياض خلال حرب 12 يوما في يونيو 2025، عبر توفير غطاء سياسي ضمني للهجوم الإسرائيلي ـ الأميركي على إيران ومنشآتها النووية، يتضح أن هذا التحرك الأخير في لبنان ليس خروجا عن خط ثابت، بل استمرارا له.
المفارقة أن "السعودية"، وهي تقدّم نفسها كقوة عربية صاعدة في ظل "رؤية 2030" ومشاريعها، لا تزال تتحرك ضمن حدود الدور الوظيفي المرسوم لها في الاستراتيجية الأميركية ـ الإسرائيلية، تماما كما كان الحال في الستينيات حين تحوّل المال السعودي إلى أداة لتمويل الحروب بالوكالة ضد خصوم واشنطن في المنطقة. الفرق أن المشهد اليوم أكثر وضوحا، لم يعد هناك مجال لتسويق الدور السعودي على أنه وساطة أو محاولة للتوازن، بل هو انخراط مباشر في جبهة معادية للمقاومة، تتكامل سياسيا مع العدوان الإسرائيلي على غزة.
إن البنية العميقة لهذا السلوك السعودي تكشف عن افتقار مزمن لاستراتيجية عربية مستقلة. فبدلا من أن تسعى الرياض إلى بناء موقف متوازن يراعي مصالحها ومصالح محيطها العربي، تختار التموضع في موقع الأداة التنفيذية لمشاريع خارجية، حتى حين ترفع شعارات "التحالف العربي" أو "العمل المشترك". والنتيجة أن أي خطوة سعودية من هذا النوع تصبح جزءا من الصراع الإقليمي على حساب الداخل العربي، كما حدث مع التجربة الناصرية حين حُوصرت وأُنهكت، لا لأنها كانت معادية ل"السعودية"، بل لأنها مثّلت مشروعا عربيا تحرريا يهدد معادلة الهيمنة.
في المشهد اللبناني الراهن، يتحرك المبعوث السعودي وكأنه قائد غرفة عمليات، لا كممثل دبلوماسي، يملي التحالفات، يرسم خطوط التواصل، ويحدد متى وأين يمكن الانسحاب أو البقاء في الحكومة. هذا النمط من التدخل يعكس إدراكا سعوديا بأن المعركة على حزب الله ليست فقط عسكرية أو أمنية، بل هي معركة على الشرعية السياسية والاجتماعية التي تحيط به. وإذا كان الهدف الإسرائيلي هو تجريد المقاومة من عمقها الجغرافي في غزة، فإن الهدف السعودي في لبنان هو تجريدها من عمقها السياسي، بحيث تُحاصر من الخارج وتُعزل من الداخل.
إن هذا الترابط بين المسارين ـ العدوان على غزة والتحرك السعودي في بيروت ـ يفضح وحدة المشروع الذي يستهدف ضرب موازين القوة في المنطقة لصالح (إسرائيل). وهو ترابط لا يمكن فصله عن التاريخ الطويل من الاصطفاف السعودي مع السياسات الأميركية، سواء عبر دعم الحروب بالوكالة، أو تمويل القوى المناهضة لأي مشروع عربي تحرري. ومن هنا، فإن قراءة ما يجري اليوم لا تكتمل إلا بفهم أن "السعودية"، وهي تخوض معركتها في لبنان، إنما تنفذ فصلا جديدا من كتاب قديم، عنوانه الدائم: مواجهة قوى التحرر العربي تحت راية الحفاظ على "الاستقرار"، فيما الجوهر هو حماية بنية الهيمنة الإقليمية التي يقودها المحور الأميركي ـ الإسرائيلي.
ارسال التعليق