
هندسة الطاعة: كيف تصنع المناهج المواطن في السعودية
[جمانة الصانع]
دراسة تحليلية في بنية الدولة والمجتمع
إعداد: جمال عبد السلام…
تُعد مسألة الحرية في السعودية من أكثر القضايا حساسية وتعقيداً في السياق العربي والإسلامي، حيث يتقاطع فيها الدين، والسياسة، والتقاليد القَبَلية، والاقتصاد الريعي، ضمن منظومة حكم تُغَلِّب الطاعة على النقد، والامتثال على المبادرة، والإجماع المفروض على التنوع.
ضمن هذه المعادلة، تتخذ أدوات القمع في السعودية طابعاً ممنهجاً، يتغلغل في تفاصيل الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية، مستنداً إلى تشريعات غامضة، وإعلام موجه، وأجهزة أمنية ذات نفوذ واسع.
أما المناهج الدراسية، فتلعب دوراً مركزياً في إعادة إنتاج هذا النمط السلطوي، من خلال تكريس الطاعة السياسية، وتقييد التفكير النقدي، وتقديم صورة مُعقَّمة للواقع السياسي والاجتماعي.
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل العلاقة بين الحرية والقمع في السعودية، ودور التعليم في تشكيل عقل المواطن الخاضع، عبر مقاربة متعددة الأبعاد تشمل الجوانب السياسية والاجتماعية والدينية والتربوية.
أولاً: مفهوم الحرية في السياق السعودي
1. الحرية في الخطاب الرسمي والديني
في السعودية، يتم تحميل الحرية معاني مقيدة، حيث تُربط دوماً بـ"الحرية المنضبطة"، أو ما يُسمى بـ"الحرية في إطار الشريعة"، دون أن يكون هناك تعريف واضح أو ضمانات لهذه الحرية. يُستخدم هذا التأطير غالباً لتبرير تقييد الحريات السياسية والفكرية، ويتم توظيف الخطاب الديني الرسمي لتغليب مفاهيم الطاعة و"عدم الخروج على ولي الأمر".
تقوم المؤسسات الدينية التابعة للدولة بدور أيديولوجي في تقنين غياب الحرية، وتُقدَّم طاعة الحاكم كأحد الواجبات الدينية، مما يجعل أي مطالبة بالإصلاح أو الحرية السياسية تُوصم بالخروج والفتنة، ويتم توظيف هذا التأويل لتكميم الأفواه وتعزيز السلطة المطلقة.
2. غياب الحريات الأساسية
لا يوجد في السعودية حريات سياسية بالمعنى المتعارف عليه، فلا يُسمح بتأسيس أحزاب، ولا تُجرى انتخابات تشريعية، ولا يوجد برلمان منتخب. حرية التعبير محدودة للغاية، وغالباً ما يؤدي انتقاد السياسات العامة إلى الملاحقة والسجن.
حرية الصحافة غير موجودة عملياً، فجميع وسائل الإعلام تخضع للرقابة الرسمية، والصحفيون يتعرضون للرقابة المشددة، أو يُسجنون كما حصل مع جمال خاشقجي قبل مقتله، وسلمان العودة، وعشرات آخرين.
ثانياً: القمع الممنهج: آلياته وتجلياته
1. التشريع الغامض كأداة قمعية
من أبرز الأدوات القانونية التي تتيح القمع، قوانين "مكافحة الإرهاب" و"الجرائم المعلوماتية" التي تحتوي على بنود فضفاضة تسمح للسلطات باعتقال أي شخص بناءً على تفسيرات نوايا أو تغريدات عابرة.
عبارات مثل "الإساءة إلى النظام العام"، و"الإضرار بسمعة الدولة"، و"التواصل مع جهات أجنبية"، تُستخدم لتجريم المدافعين عن حقوق الإنسان، أو حتى من يغرّد بمطالب إصلاحية بسيطة.
2. الرقابة الأمنية والملاحقة الرقمية
الفضاء الرقمي مراقَب بشدة في السعودية. تعتمد السلطات على تقنيات متقدمة للتجسس، مثل برنامج "بيغاسوس"، وتتعاون مع شركات أجنبية لتعقب الناشطين. حسابات وهمية تُستخدم لتخويف المواطنين أو التبليغ عنهم. مئات الحالات من الاعتقالات جرت بناءً على تغريدات أو مقاطع فيديو.
3. الاعتقال التعسفي وسوء المعاملة
المعتقلون السياسيون يُحتجزون لفترات طويلة دون محاكمات، أو في محاكمات سرّية تفتقر إلى الحد الأدنى من الشفافية. هناك تقارير موثقة عن التعذيب، والعزل الانفرادي، والحرمان من الزيارات والرعاية الصحية.
أمثلة بارزة:
لجين الهذلول: سُجنت وعُذبت بسبب نشاطها الحقوقي النسوي.
سلمان العودة: اعتقل بسبب تغريدة دعا فيها للمصالحة الخليجية.
رائف بدوي: حُكم عليه بالسجن والجلد لنشره مقالات فكرية على مدونة شخصية.
4. القمع الإعلامي والرمزي
وسائل الإعلام في السعودية تُستخدم كمنصات لتلميع الحاكم وتخوين المعارض. البرامج التلفزيونية، والخطب الرسمية، والمقالات الصحفية، كلها تدفع بخطاب واحد: تمجيد السلطة ومهاجمة المعارضين. كما تُغيب قضايا الحرية والديمقراطية عن النقاش العام.
ثالثاً: أثر القمع على المجتمع
1. خلق ثقافة الخوف
ينشأ الأفراد في بيئة يُعلَّمون فيها ألا يتحدثوا في السياسة، وألا يثقوا بالآخرين، حتى داخل العائلة. هذا الخوف يؤسس لتطبيع الاستبداد، بحيث يصبح الصمت والخضوع جزءاً من "السلوك الآمن".
2. إضعاف المجتمع المدني
لا توجد جمعيات حقوقية أو منظمات مجتمع مدني مستقلة. يتم التضييق على أي مبادرة تطوعية أو فكرية لا تخضع للرقابة الرسمية. حتى الأنشطة الثقافية تُراقَب، وتُمنع في حال خروجها عن الخط المرسوم.
3. هجرة العقول والنخب
كثير من المفكرين، والصحفيين، والحقوقيين غادروا البلاد خوفاً من الاعتقال أو التضييق، مثل: عبد الله العودة، وعلي الدبيسي، وسعيد بن ناصر الغامدي. هذه الهجرة تُفرغ المجتمع من أدوات النقد والإصلاح.
رابعاً: المناهج الدراسية كأداة لإنتاج الطاعة
1. المحتوى المؤدلج والتلقيني
المناهج تركز على مفاهيم الطاعة، الولاء، والتحذير من "الخروج على الحاكم". تُعرض دروس كاملة تُعزز صورة الحاكم كـ"ولي أمر يجب طاعته طاعة مطلقة". لا يتم تناول أي أحداث سياسية حديثة، ولا تُدرَّس الديمقراطية أو حقوق الإنسان.
2. غياب التفكير النقدي
الطالب يُربّى على الحفظ لا الفهم، والامتثال لا السؤال. لا توجد تمارين تحليل أو مقارنات، بل إجابات نمطية يجب حفظها. هذا يؤسس لعقلية غير قادرة على التفكير النقدي أو الإبداع.
3. إقصاء التنوع الفكري والديني
تُعرض المذاهب الأخرى على أنها "ضلال" أو تُهمل تماماً. لا يُشجَّع الطالب على فهم التعددية الفكرية أو احترام الآراء المختلفة، ما يُنتج وعياً منغلقاً يعيد إنتاج التعصب.
خامساً: تحليل نقدي وتأثير طويل الأمد
1. إنتاج مواطن غير حر
النظام التعليمي والإعلامي يُنتج مواطناً خاضعاً، لا يجرؤ على النقد، ويؤمن بأن الخلاص مرتبط بالحاكم، وليس بالمشاركة. هذه البنية تعيق أي تحرك شعبي مستقبلي.
2. تقويض التنمية الحقيقية
لا تنمية دون حرية. التعليم الخالي من التفكير النقدي لا يُنتج علماء أو مبدعين. البيئات الحرة فقط هي التي تنتج المبادرة والاختراع، بينما تؤدي البيئات المقموعة إلى الجمود والانغلاق.
3. خطر التناقض مع الواقع العالمي
الشباب السعودي متصل بالإنترنت، ويرى في الخارج نماذج أخرى للحياة والمجتمع، ما يولّد صراعات داخلية بين ما يُعلَّم في المدرسة، وما يُكتشف في الحياة الرقمية، وهو ما قد يؤدي إلى التمرد الداخلي أو الانفصال عن الواقع.
سادساً: توصيات واستشراف للمستقبل
إصلاح المناهج جذرياً: عبر إدخال الفلسفة، والتفكير النقدي، والتاريخ السياسي، ومفاهيم حقوق الإنسان بشكل جاد وحر.
حماية حرية التعبير في المدارس والجامعات: لا يمكن أن يزدهر التعليم في بيئة يخاف فيها الطلاب والمعلمون من التعبير.
استقلالية المؤسسات التعليمية: لا بد من رفع يد الرقابة الأمنية والدينية عن المؤسسات الأكاديمية.
دعم المجتمع المدني التربوي: تشجيع المبادرات التعليمية والفكرية المستقلة.
وفي الختام نقول: إن القمع في السعودية لا يُمارَس فقط بالسجون والمحاكم، بل عبر مناهج التعليم، وخطب المساجد، والمحتوى الإعلامي، والسياسات العامة. وإذا أرادت الدولة أن تنتقل إلى مصاف الدول الحديثة، فلا بد أن تُطلق حرية التعبير، وتُعيد تشكيل التعليم بوصفه فضاءً لإنتاج العقل الحر لا المواطن الخائف. فالحرية ليست ترفاً، بل ضرورة تاريخية.
ارسال التعليق