
قرار نزع سلاح المقاومة..هل يكون هو الورقة الأخيرة ل"السعودية" في لبنان؟
[عبد الرحمن الهاشمي]
بقلم عبد الرحمن الهاشمي
بالقرار الصادر عن مجلس الوزراء اللبناني في 5 أغسطس 2025، بتكليف الجيش وضع خطة لحصر السلاح بيد الدولة قبل نهاية العام، يكون لبنان قد دخل مرحلة سياسية وأمنية شديدة الخطورة، تتجاوز المألوف الرمادي الذي حكم موقع الدولة تجاه سلاح المقاومة لعقود. فالقرار هو إعلان صريح بانخراط المؤسسات الرسمية - ولأول مرة بهذا الوضوح- في مشروع نزع السلاح، استجابة مباشرة لضغوط خارجية، على رأسها "السعودية". فهذا القرار يلبّي المطلب الذي عبّر عنه السفير السعودي علنا قبل أسابيع، ويُجسّد تحقّق الإرادة السعودية-الأميركية في تحويل ملف السلاح إلى سياسة لبنانية رسمية، ولو بمعزل عن القدرة الواقعية على تنفيذه.
بهذا المعنى، يتجاوز القرار كل حديث عن "السيادة" و"القرار الوطني"، لأن الدولة، بدل أن تحمي عناصر القوة الوطنية في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية، تُستدعى الآن كأداة نزع داخلي لمنظومة الردع الوحيدة المتبقية. والأخطر أن ذلك يجري تحت شعار مضلل عنوانه "بسط سلطة الدولة"، فيما يُترجم فعليا إلى تجريدها من قدرتها الدفاعية، ووضعها في موقع التابع المنفذ لإملاءات تخدم أمن (إسرائيل) بل تغذي أطماعها في لبنان ضعيف مجرد من سلاح مقاومته. إنه قرار خطير، لا لأنه يغيّر التموضع الرسمي فحسب، بل لأنه يفتح الباب على احتمالات التفجّر الداخلي، بإدخال الجيش في معادلة صدام وطني، ما ينذر بانهيار ما تبقّى من توازن هش، ويجعل من الدولة طرفا في معركة لا تملك شروطها ولا أفقها.
إن السياق الذي أُقر فيه هذا التكليف ليس بريئًا ولا محايدًا. فمنذ 7 أكتوبر 2023، ومع الانهيار المدوي لعقيدة الردع الإسرائيلية في غزّة، انخرطت الولايات المتحدة وحلفاؤها في إعادة هيكلة أولوياتهم في المشرق، واضعين على رأسها "تحييد حزب الله" بوصفه العقدة الأخيرة في جدار المقاومة. وتحوّل سلاح الحزب، بفعل فعاليته المتصاعدة في المعادلة الجنوبية، إلى هدف استراتيجي مباشر، لا بوسائل الحرب فقط، بل عبر أدوات الضغط المركّب: الاقتصادي، والدبلوماسي، والسياسي. وهنا برزت "السعودية" كأداة مركزية في هذا المشروع، مستثمرة موقعها في لبنان وعلاقاتها بالقوى المتحالفة مع واشنطن، لدفع الملف إلى الواجهة، وتحويله إلى عنوان داخلي لا مطلبا خارجيا فقط.
هذا ما عبّرت عنه تصريحات السفير السعودي وليد البخاري في يوليو 2025 حين ربط بشكل مباشر بين أي دعم اقتصادي للبنان وبين "احتكار الدولة للسلاح". لم يعد الخطاب السعودي يكتفي بالتحذير من مخاطر استمرار المقاومة، بل بات يعمل على إعادة تأطير الأزمة اللبنانية برمتها بوصفها نتيجة مباشرة لبقاء السلاح خارج مؤسسات الدولة. وقد تكامل هذا الخطاب مع حملة إعلامية ممنهجة قادتها أدوات سعودية رسمية وغير رسمية، تربط بين سلاح حزب الله وبين الانهيار المالي، التهجير القسري، ومخاطر الحرب المفتوحة.
لكنّ الأخطر أن هذا الضغط السعودي لم يبقَ عند حدود التعبير أو التلويح، بل راكم حضورا سياسيا صلبا في كواليس القرار اللبناني، ونجح - بتنسيق مع أدوات داخلية وفي مقدمتها حزب القوات اللبنانية – في فرض جدول أعمال جديد على الحكومة، بلغ ذروته بقرار 5 أغسطس. هذا القرار، الذي يضع مؤسسة الجيش التي يُفترض حيادها في موقع المشتبك مع أحد مكونات الدولة الفعلية، ويُحمّلها مسؤولية تفكيك شبكة دفاعية تشكّلت على مدى عقود في وجه العدوان الإسرائيلي.
بهذا المعنى، يصبح الدور السعودي أكثر من مجرّد دعم موقف أمريكي، بل يتجاوز ذلك إلى مستوى التكامل الوظيفي في تنفيذ أجندة تصفوية للمقاومة، تقوم على توزيع الأدوار حيث تمارس (إسرائيل) الضغط العسكري المتواصل عبر الاغتيالات والقصف المنهجي للبنى التحتية، بينما تُشرف "السعودية" على الضغط السياسي والاقتصادي الداخلي لدفع الدولة إلى التموضع ضد السلاح، وإجهاض أي دعوة لحوار وطني حول الاستراتجية الدفاعية وفي قلبها سلاح المقاومة.
تؤكد المعلومات المسرّبة من البنتاغون في مايو 2025 أن هذا التواطؤ الثلاثي (الأميركي- الإسرائيلي- السعودي) بلغ حدّ البحث في "مرحلة ما بعد السلاح"، بما يشمل نشر قوات دولية معزّزة بدعم استخباري سعودي في الجنوب. وهي خطوة تعكس تحوّلا عميقا في وظيفة الحضور السعودي في لبنان؛ من داعم اقتصادي - كما في زمن إعادة الإعمار- إلى طرف ضاغط يعمل على إعادة صياغة المعادلة الأمنية اللبنانية بما يخدم مصلحة (إسرائيل) في تحييد الجبهة الشمالية.
لكن هذه المقاربة تنطوي على ثلاث مخاطر بنيوية، تجعل من المشروع السعودي مقامرة استثنائية في لحظة إقليمية متحركة. أولا، أنها تؤسس لخلل خطير في توازن الردع مع العدو، إذ لا تضمن وقف الاعتداءات الإسرائيلية اليومية على السيادة اللبنانية، ولا توفر أي بديل حقيقي للحماية، في ظل فشل اليونيفيل المزمن.
ثانيا، أنها تدفع نحو تصدع داخلي كبير، فقرار نزع السلاح بغطاء رسمي دون توافق وطني شامل، يُعيد شبح الحرب الأهلية ويُقوّض التسوية الطائفية الهشة.
وثالثا، أن هذا المشروع لا يملك مقومات النجاح الاستراتيجي، طالما أن الحرب على غزّة لا تزال قائمة، وأن المحور الإيراني - رغم الاستنزاف- لم يُكسر، ما يعني أن الضغط السعودي قد يتحول إلى فشل سياسي جديد يضع "المملكة" في موقع المنفذ العاجز لمشروع أكبر منها.
بكل وضوح، لا يمكن فصل القرار الحكومي الأخير عن منظومة الضغط المركّب التي تقودها الولايات المتحدة، ولا عن سياق ما بعد 7 أكتوبر الذي تسعى فيه واشنطن إلى تصفية ما تبقى من جبهات المقاومة، عبر وكلاء محليين وإقليميين. وفي صلب هذا المخطط، تبرز "السعودية" لا بوصفها مجرّد حليف، بل كركيزة تنفيذية تتكامل وظيفيا مع المشروع الأميركي- الإسرائيلي، وتضطلع بدور تخريبي مباشر داخل البنية اللبنانية، تحت شعار "استعادة الدولة". إن الرهان على تحويل الدولة إلى أداة نزع سلاح، في هذا المفصل التاريخي الخطير والدقيق ليس رهانا على بناء لبنان، بل على تفكيكه وتفجيره من الداخل.
لقد تجاوزت "السعودية" في هذا السياق كل الخطوط الرمزية، وتحوّلت من طرفٍ عربي يُفترض به دعم مقاومة الاحتلال، إلى رأس حربة في مشروع تصفية هذه المقاومة. وبدل أن تُراجع فشل خياراتها السابقة في لبنان والمنطقة، تمضي اليوم في دفع البلاد نحو مواجهة عبثية، وتتعامل مع السيادة اللبنانية كسلعة تفاوضية في بازار الضمانات الأميركية والتطبيع المتقدّم مع (إسرائيل).
بمثل هذا الانخراط الفج، تُسقط "السعودية" آخر ادعاءاتها بدور عربي جامع، وتكشف عن موقعها الحقيقي كقوة إقليمية مضادة لمحاولات الانعتاق من العبودية للأمريكي، متماهية مع الأجندة الأميركية-الإسرائيلية. لم تعد تظهر كراعٍ للاستقرار أو كداعم للأشقاء، بل كمحور مضاد يُوظّف نفوذه وموارده لتمزيق الجبهة الداخلية اللبنانية، وتفكيك عناصر القوة في وجه الاحتلال. إنها تنقلب بوعي على كل ما مثّله النضال العربي من مناهضة للاستعمار ورفضٍ للهيمنة، وتدفع بلبنان نحو التفكك، فقط لتضمن موقعا ثابتا في معسكر الحماية الأميركية، ولو كان الثمن تفجير لبنان داخليا وضياعه وإسقاطه أمام الأطماع الإسرائيلية.
ارسال التعليق