هل تعلم
كيف حول ابن سلمان السعودية إلى بقرة حلوب
في مشهد الاقتصاد العالمي المعاصر، لطالما كانت السعودية رمزاً للقوة المالية في الشرق الأوسط، وحلقة وصل استراتيجية بين النفط والمال والسياسة وأكبر مانحة عالمية.
إذ بفضل ثروتها النفطية الهائلة، تحولت المملكة لعقود إلى مانحة مالية تساهم في مشاريع ضخمة على الصعيد الدولي، مستثمرة فوائضها في أسواق المال العالمية والعقارات والبنى التحتية.
لكن بعد سنوات من الإنفاق المسرف بقيادة ولي العهد محمد بن سلمان، تغيّرت الصورة بشكل جذري، وتحولت السعودية من دولة مانحة إلى دولة مديونة تعتمد على الاقتراض الخارجي لتغطية عجزها، في مؤشرات خطيرة لقوة المملكة الاقتصادية والنفوذ السياسي.
من وفرة إلى عجز:
كانت السعودية لسنوات طويلة، إلى جانب دول خليجية أخرى مثل الكويت وقطر والإمارات، تحقق فائضاً مالياً ضخماً نتيجة تصدير النفط والغاز.
هذا الفائض سمح لها بالاستثمار في صناديق سيادية ضخمة، مثل صندوق الاستثمارات العامة السعودي، الذي أصبح واحداً من أكبر الصناديق في العالم. هذه الأموال استُثمرت في مشاريع متعددة حول العالم، من أسواق الأسهم والسندات إلى العقارات والبنية التحتية.
وقد كان هذا النموذج المالي بمثابة ضمانة للنفوذ السعودي في السياسة العالمية، حيث ربطت الدول الغربية والمستثمرين مصالحهم بالمملكة، وأثبتت الرياض قدرتها على لعب دور استراتيجي محوري.
إضافة إلى ذلك، كان الرئيس الأمريكي دونالد ترمب يعترف صراحةً بهذه القوة السعودية، إذ اختار الرياض والدوحة وأبوظبي كوجهات لزياراته الرسمية، ما أسفر عن صفقات ضخمة بمئات المليارات من الدولارات، تدعم الشركات الأمريكية وتعزز الشراكات الاقتصادية بين الخليج والغرب.
لكن الأمور لم تظل على حالها. فقد دخلت السعودية حقبة جديدة بقيادة محمد بن سلمان، حيث اختار ولي العهد مساراً طموحاً للغاية من التحول الاقتصادي والاجتماعي.
برنامج التحول الوطني ورؤية 2030 هدفت إلى تنويع الاقتصاد السعودي بعيدا عن النفط، وضمِنَت إنشاء مدن ذكية، منتجعات سياحية فاخرة، مشاريع تكنولوجية متقدمة، واستضافة فعاليات عالمية ضخمة مثل “إكسبو 2030” وكأس العالم 2034.
الإنفاق يرهق المالية العامة:
لكن هذه الطموحات كلفت السعودية ثروة هائلة، تقدر بنحو 2 تريليون دولار، وفق تقارير بلومبيرغ. تراكمت مصاريف البنية التحتية والتحول الاجتماعي والجيوسياسي في ظرف عشر سنوات، وسط هبوط أسعار النفط التي تعد المصدر الأساسي لإيرادات المملكة.
بحسب كبار المحللين، تحتاج السعودية إلى سعر نفط مرتفع نسبياً – بين 82 إلى 113 دولارًا للبرميل – من أجل تحقيق التوازن في ميزانيتها، وهو سعر يفوق بكثير أسعار النفط الحالية التي تراوح حول 65 دولارًا.
وهذا يخلق ضغطاً مالياً كبيراً، يجعل المملكة مضطرة للاقتراض وتصبح مستهلكة صافية لرأس المال، على عكس الماضي الذي كانت فيه مزودًا صافياً لرأس المال.
ويظهر هذا بوضوح في الديون الخارجية التي بلغت 142 مليار دولار، الأمر الذي يقلص من مرونة المملكة المالية ويؤثر سلباً على قدرتها على اتخاذ قرارات مستقلة دون الاعتماد على مقرضين خارجيين.
ضعف النفوذ الاقتصادي وتداعياته الجيوسياسية:
تراجع القدرة المالية للسعودية لم يكن مجرد مسألة اقتصادية بحتة، بل أثر على موقعها الاستراتيجي ونفوذها الجيوسياسي.
فقد كان الاستثمار السعودي في الخارج واحداً من أدوات القوة الناعمة التي استغلتها الرياض لتعزيز تحالفاتها، وتأمين حياد دولي، وضمان موقعها كقوة إقليمية فاعلة.
أما الآن، ومع تزايد اعتماد المملكة على التمويل الخارجي، فإنها تفقد جزءًا من قوتها التفاوضية. إذ يصبح وضعها الاقتصادي مرهونًا بالممولين الأجانب، ما قد يحد من قدرتها على صياغة سياسات مستقلة أو فرض شروط صارمة في ملفات إقليمية حساسة.
هذا التراجع يعزز الفرص لدول خليجية أخرى، أبرزها قطر، لاستعراض نفوذها الاقتصادي والسياسي. ففي الوقت الذي تسعى فيه الرياض لمواصلة مشاريعها الضخمة، تنظم الدوحة فعاليات اقتصادية كبرى وتوسع من نفوذها من خلال استثمارات استراتيجية ومرونة مالية أعلى.
الاقتصاد السعودي بين الطموح والمخاطر:
لا يعني هذا الوضع أن السعودية على وشك الإفلاس، فالمملكة لا تزال ثاني أكبر منتج للنفط في العالم، وتمتلك احتياطيات ضخمة تدر عليها مليارات الدولارات سنوياً. كذلك، معدل الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي منخفض نسبياً مقارنة بدول أخرى، ما يسمح لها بالاقتراض لتمويل مشاريعها لفترة أخرى.
لكن القصة الحقيقية تكمن في الخسارة التدريجية للسيادة الاقتصادية. فالتحول إلى دولة مديونة يعني أن الرياض قد تضطر إلى تقديم تنازلات في ملفات دولية واقتصادية لتأمين القروض، مما يضعف موقعها الاستراتيجي.
في نفس الوقت، يبقى مشروع محمد بن سلمان الطموح محفوفًا بالمخاطر المالية، خصوصًا مع عدم الاستقرار في أسواق النفط العالمية، وتأثير تقنيات الطاقة المتجددة التي قد تقلل الطلب على الوقود الأحفوري مستقبلاً. وقد تُهدد هذه العوامل بإضعاف قدرة السعودية على الوفاء بالتزاماتها الضخمة، سواء على الصعيد المحلي أو الدولي.
وبالخلاصة تحولت السعودية خلال عقد واحد من لاعب مالي نشط يمتلك فائضاً مالياً ضخماً، إلى دولة تعاني عجزًا ماليًا وتزايد ديون خارجية، بفعل الإنفاق المكثف على مشروعات رؤية 2030 والتزامها بمشاريع ضخمة لجذب النفوذ الجيوسياسي والاقتصادي.
هذا التحول يحمل دلالات هامة على مستقبل المملكة في المشهد الإقليمي والدولي، حيث تفقد القوة الاقتصادية التي كانت من ركائز نفوذها. ولتجنب المزيد من التدهور، تحتاج السعودية إلى إعادة تقييم سياساتها المالية، التركيز على الاستدامة الاقتصادية، وتقليل اعتمادها على النفط كمصدر وحيد للإيرادات.
ارسال التعليق