السعودية و بلاد الأزهر : الثأر المعمّر أم الدائرة المغلقة؟
نحو قرنين من الزمن مرّا على سقوط “الدولة السعودية الأولى” على يد والي مصر إبراهيم باشا (عام 1818)، يومها أسقطت الجيوش القادمة من بلاد الأزهر الدولة التي نازعت العالم الإسلامي ككل على “الإسلام” فأخرجت من دائرته عموم المسلمين، وأغلقت حدود هذه الدائرة على أتباع محمد بن عبدالوهاب حصراً. سقطت الوهابية يومها، قبل أن تعود مجدداً لمنازعة المسلمين عموماً وبلاد الأزهر خصوصاً على المكانة الدينية.
بعد أحداث حزيران/يونيو 2013 التي آلت إلى وصول المشير عبدالفتاح السيسي إلى الحكم، لم تكن مصر بحاجة إلى التحالف مع السعودية، بقدر ما احتاجت له الأخيرة. لا يُقال هذا الكلام للتقليل من أهمية الهبات المالية التي أغدقتها مملكة النفط على بلاد الكنانة، والتي يُمَنن بها المصريون يومياً. الفقر الذي اعتاده المصريون لما يكن جديداً على المصريين، ما كان ملحاً بالفعل هو أن تتحرك المملكة لوضع حد لتمدد نفوذ “الإخوان المسلمين” في المنطقة، النفوذ الذي كان يضيّق الخناق على مملكة لا تطيق منافساً لها على الساحة الاسلامية.
تنظر السعودية إلى أي جماعة أو حركة إسلامية صاعدة على أنها منافس يزاحمها على “الشرعية” الدينية التي تستند إليها لاحتكار تمثيل العالم الإسلامي، هذه النظرة تحكم علاقات المملكة السعودية بالسودان وتركيا وإيران.
في مقابلة له عام 2002 مع صحيفة “السياسة الكويتية” وصف وزير الداخلية السعودي السابق نايف بن عبدالعزيز”الاخوان المسلمين” بأنّهم “أصل البلاء”، مضيفاً: “من دون تردد أقولها إنّ مشكلاتنا وإفرازاتنا كلها جاءت من الإخوان المسلمين”.
في أوج الأزمة السياسية بين مصر في عهد الرئيس جمال عبدالناصر والسعودية، فتحت المملكة أبوابها لاستقبال قيادات الجماعة، أرادت المملكة استخدام هذه القيادات في إطار صراعها السياسي مع عبدالناصر. وفي العام 1961 أنشأت الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة كي تكون نداً لجامعة الأزهر الشريف، قدمت المملكة المغريات لأبناء العالم الإسلامي لاستقطابهم إلى هذه الجامعة، واستعانت بمدرسين مصريين من قيادات الاخوان المسلمين في الجامعة وفي المؤسسات التربوية السعودية… وهذا ما يوثقه كلام وزير الداخلية السعودي السابق بقوله: “لما اشتدت عليهم الأمور، وعلقت لهم المشانق في دولهم، لجأوا إلى المملكة فتحملتهم وصانتهم… وجدنا انهم يطلبون العمل، فأوجدنا لهم السبل، ففيهم مدرسون وعمداء، فتحنا أمامهم أبواب المدارس والجامعات”.
الصدام السعودي-الإخواني سرعان ما وقع، قبل أن يصل لمرحلة تجريم الانتماء للإخوان. يبرر نايف العداء السعودي للإخوان المسلمين بالقول: “للأسف لم ينسوا ارتباطاتهم السابقة، فأخذوا يجندون الناس، وينشؤون التيارات، وأصبحوا ضد المملكة”.
ليس بمقدور المملكة أن تتحمل صعود أي حركة إسلامية، تدعم المملكة حركات إسلامية كثيرة وتوظفها في إطار صراعاتها السياسية في المنطقة، إلا أن المملكة –كما عهدناها- كانت أول من وقف بوجه هذه الجماعات بعد تصاعد نفوذها السياسي، ومشهد الحرب الأهلية في أفغانستان بعد خروج الاتحاد السوفياتي منها خير دليل.
المخاوف السعودية من كل ما هو “إسلامي” وصاحب نفوذ تقدم تفسيرات لسياسات المملكة في العالم الإسلامي ككل، وفي بلاد الأزهر تحديداً.
في ظل التوتر الأخير في العلاقة بين مصر والسعودية، انتقد الإعلامي المصري إبراهيم عيسى العلاقة القائمة بين البلدين. وقال في برنامجه الذي يُذاع على قناة “القاهرة والناس” إن السعودية “لا تطيق موقفاً سيادياً مستقلاً لمصر، وتسعى لأن يكون موقف القاهرة متماشياً مع موقف الرياض، بعد تخلي الأولى عن دورها وقيادتها الدينية في الوطن العربي خلال السنوات الأخيرة، وسيرها مغمية العينين، منساقة القدمين خلف السلفية الوهابية”، وفق تعبيره.
وقال عيسى إن الوهابية اخترقت العقل المصري ومناهج التعليم المصرية حتى باتت الأخيرة أقرب للمناهج الدينية السعودية،”وأصبحت قوانين مصر وهابية مثل قانون ازدراء الأديان، وصدرت الفتاوى من مصر بهدم وإحراق الكنائس”.
30 عاماً من العلاقات الممتازة بين مصر والسعودية، لم توقف الأخيرة عن المضي في عملية ممنهجة لمنازعة الأزهر على دوره الديني على مستوى العالم الإسلامي، وظفت فيها السعودية مختلف الوسائل والأدوات، لم تتوقف هذه العملية لا في أوج التشابك السياسي بين الدولتين، ولا حتى في فترات “التحالف الاستراتيجي” الذي لطالما مجدته صحف البلدين.
في مقابلة أجراها موقع المنار عام 2013، تحدث أستاذ الفقه المقارن والشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر الشيخ أحمد كريمة عن مساعٍ وهابية لتغيير الصبغة والهوية الأزهرية. قال الشيخ كريمة: ” يريدون فرض آراء محمد بن عبد الوهاب وابن تيمية لتحل محل الاجتهادات السليمة للإمام أبي الحسن الأشعري –رحمه الله- ، يريدون أن يكون الأزهر مذهبياً في الفقه، أي أن يكون في فقه أحمد بن حنبل –رض- يريدون لأشياخهم في الخليج ان يكونوا المرجعية .. هذا جزء من مخططهم.”
في القاهرة، أوعزت الوهابية “إلى الطلاب الدارسين خصوصاً العجم من الدول الآسيوية والإفريقية أن الأزهر عقيدته كفر وشرك، وبالتالي تحول هؤلاء الى بلد المنشأ في الخليج العربي، أو يرجعون إلى بلادهم، وهم يحملون شهادات أزهرية ، ويعتنقون أفكاراً سلفية وهابية، وينشئون جماعات العنف المسلح وهناك الفيلبين والصومال ونيجيريا ومالي وباكستان وغيرها.. هؤلاء نموذج، الجماعات هذه تشربت ذلك، الوهابية يشبعون الأتباع بالتعاليم التكفيرية، هذا هو مخطط إغلاق وإضعاف الأزهر”، بحسب كريمة.
في تقرير عنوانه “جامعة موازية للأزهر تعطى قبلة الحياة للإخوان والسلفيين وتمنحهم الدكتوراه فى العلوم الشرعية.. جامعة المدينة العالمية بماليزيا تستعين بأساتذة الأزهر لتغطية نشاطها بالعمامة الأزهرية” كشف موقع “اليوم السابع” المصري في شباط/فبراير الماضي عما وصفه بعملية تسلل لعناصر من “الجماعات الإخوانية والسلفية، والمتطفلين على الدعوة” للحصول على درجات علمية محسوبة على الأزهر الشريف… كيف كان يتم ذلك؟ عبر جامعة المدينة العالمية التي أسستها السعودية في ماليزيا، وفتحت لها فرعاً في القاهرة.
أغدقت السعودية أموالها لشراء أساتذة وأئمة من الأزهر، ووفّرت سبل الراحة للطلاب المصريين والأجانب الذين بات بمقدورهم متابعة دراستهم ونيل درجات علمية موازية للأزهر عبر الانترنت.
وفي تعبير عن خطورة المشكلة، أفرد الموقع المصري تقريراً آخراً عن جامعة المدينة وجامعات أخرى، افتتحه بالتالي: “بجوار أسوار الأزهر، ليس بعيدا عنه، تعمل جامعات مستنسخة بنظام التعليم عن بعد، مستخدمة أساتذته دون موافقته، حتى تفشت الظاهرة والمؤسسة الدينية لا تحرك ساكنا، فى الوقت ذاته تعتمد وزارة الخارجية المصرية والمجلس الأعلى للجامعات شهادات بداية من الليسانس إلى الدكتوراه من هذه الجامعات فى تناقض مع موقف الأزهر الذى يلتزم الصمت. وتدرس 100 جنسية بالجامعات الأمريكية والماليزية والنيجيرية والبنمية، للدراسات الإسلامية الموجودة داخل مصر وكأنها ليست بلد الأزهر”!
الورقة الإعلامية كان حاضرة في الحرب السعودية على الأزهر؛ لا يملك “الأزهر الشريف” قناة تلفزيونية واحدة، فيما يضع السلفيون المحسوبون على السعودية يدهم على 15 قناة. يقول الشيخ أحمد كريمة : “لقد دخلوا إلى بيوت العوام والمناطق الشعبية وغيرها، الناس لا يتعرفون إلى الاسلام إلا عبر هؤلاء، فيما يقتصر ظهور علماء الأزهر الاعلامي في البرامج التلفزيونية الرسمية ولمدة لا تتجاوز 10 دقائق.”
الحرب السعودية الناعمة على الأزهر، سهلها التغاضي المصري. في هذه النقطة تحديداً، يعلق الإعلامي إبراهيم عيسى بالقول إن مشكلة مصر تكمن في تخليها عن دورها “الريادي في الفهم الديني وباتت ملحقة بالسعودية”، مضيفاً أن بعض المشايخ والعلماء باتوا محسوبين على المؤسسة الوهابية، وأن عدداً من الجمعيات الدينية “باتت ممولة ومخترقة من النفط السعودي أو الوهابي”.
هل فعلاً تخلت مصر عن دورها الريادي؟ هل كان قراراً مصرياً؟ أم أنه كان بمثابة المسار الذي رسمته وحددته السعودية، ومضت فيه مصر دون التفات إلى مآلاته؟!
عام 2011 كتب الصحافي المصري حمدي السعيد سالم: “مصر مهددة بثأر عمره قرنين من الزمن”، “آل سعود وآل الشيخ ناقمون على مصر وشعبها بعد أن لقنّهم المصريون درساً، لا يمكنهم نسيانه في الدرعية على يد القائد البطل إبراهيم باشا”… فهل المنازعة السعودية هي تفسير للثأر المعمّر، أم أنها دائرة المملكة السعودية التي لا تعرف ندية أو شراكة ولامكان فيها إلا للأتباع؟!
بقلم : إسراء الفاس
ارسال التعليق