هل تحتاج جماعة ابن سلمان إلى جاسوس من طراز عبد الله فيلبي
بقلم: د. محمد الجواديالشيخ عبد الله فيلبي هو نفسه هاري سان جون بريدجر فيلبي، وهو شخصية من الشخصيات المتميّزة لكنه ليس من الشخصيات النادرة، كما أنه شخص مُتفوّق لكنه لم يصل إلى درجة العبقرية، وهو في نظر الأوربيين والأمريكيين وفي تصويرهم التاريخي الذي هندسوه "بطريقة إمبريالية" بمثابة المستشار المُفضّل (بل الوحيد) للملك عبد العزيز آل سعود في الشئون الخارجية، لكنه في حقيقة الأمر لم يكن المُفضّل وإنما كان قريبا من المُفضّلين، فقد كان هناك من الشوام والمصريين من يفوقونه قيمة وتأثيراً، ولما كان التاريخ السعودي في العقود الأخيرة يخضع في جزء كبير منه إلى طبيعة رد الفعل السعودي على ما يرويه الآخرون، فإنه إذا ما حدثت استثارة للذاكرة السعودية وجدت نصوصاً تُثبت حقائق مختلفة لم تكن مكتوبة من قبل، وإن كان النفي المطلق لأطروحات الآخرين هو الطابع الغالب على تعليقاتهم. ومن المعروف أن المؤرخين السعوديين الرسميين في المرحلة الماضية قد أجادوا التشكيك في مصداقية كلِّ رواية ارتفعت بشأن الدور الذي لعبه أيٌّ من مُستشاري العائلة السعودية، وينطبق هذا على حالة الشيخ عبد الله فيلبي، وقد كان لهذا نتيجة لم تخطُر على بال هؤلاء المؤرخين الرسميين، وهي أن الصورة الذهنية المُنطبعة عن أمثال عبد الله فيلبي في ظلِّ التقليل السعودي من دوره صحبت معها بالتلازم الأوتوماتيكي الإبقاء على دوره الخادم للإمبراطوريات الغربية بما جعل المُحصّلة النهائية أنه أقرب إلى أن يكون جاسوساً غربياً خدع السعوديين ووصل في بلاطهم إلى أرفع المراتب بينما هو يخدُمُ غيرهم! وفي حالة عبد الله فيلبي فإنه من الواضح أنه كان يخدم المصالح الأمريكية وحدهاء بدهاء عجز معاصروه عن إدراكه وهم معذورون. ومن الحق أن نقول إنه قد أصبح من الأمور المُلحّة الآن أن يتضاعف الجهد السعودي في إعادة صياغة مثل هذه الإشكاليات التي يملكون كثيراً من الحقائق بشأنها بينما الصورة المُتاحة في الكتابات الغربية دائبة الحرص على أن تُقلّلُ من قيمة مهارتهم كأصحاب شأن في معرفة المُستشار من الجاسوس، والمُتعاون من العميل، والصديق من العدو. تكوينه العلمي والعسكريعاش عبد الله فيلبي ما بين 1885 و1960 وبدأ حياته بالدراسات الاستشراقية التي كانت تُؤهل لدور الجاسوس أو الموظف الدولي أو الدبلوماسي على حد سواء فدرس اللغات الشرقية في جامعة كمبريدج وانتهى منها في 1907 وأصبح مؤهلاً للتعامل بأهم اللغات الشرقية وهي اللغة العربية التي أجادها إجادة تامة كعادة المستشرقين من أمثاله، لكنه آثر أن يوظّف معرفته باللغة في خدمة الإمبراطورية على حد التعبير التاريخي الدقيق. ومن الطريف أن الاتصال بجزيرة العرب وأهلها كان في النظام البريطاني الاستعماري محلاً لمسئولية كيانين بريطانيين كبيرين، الكيان الأول هو الوجود البريطاني في العاصمة المصرية القاهرة، والثاني هو الوجود البريطاني في الهند، وهو السبيل الذي استوعب نشاط هذا الرجل، فقد بدأ عبد الله فيلبي حياته في الهند، وتصادف أيضا أن كان لعلاقته بالهند رافدان مُهمان فأما الأول فهو أنه هو نفسه قد ولد في سيلان (سيرلانكا الآن) حين كانت تخضع للاستعمار البريطاني، وإذا كان هو قد وُلد في 1885 فإن أحمد عُرابي وصحبه كانوا منفيين إليها منذ فشل ثورتهم في 1882، أما الرافد الثاني لعلاقته بالهند فهو أنه زامل زعيمها نهرو (1889 ـ 1964) وأقران نهرو من الهنود. كانت لعبد الله فيلبي علاقة قرابة أفادته كثيراً في حياته فقد كان بمثابة ابن عم للفيلد مارشال مونتجومري قائد قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية (1887 ـ 1976) الذي تحقق للحلفاء النصر على يديه في معركة العلمين وفي معارك الساحل الشمالي في مصر وما يطلق عليه في أدبيات التاريخ شمال افريقيا، وقد كان مونتجومري نفسه شاهداً على عقد الزواج الأول لعبد الله فيلبي في 1910. المقارنة بينه وبين لورنس العربنظرا للمكانة البارزة والساحقة التي حققها لورنس العرب 1888- 1935 من خلال ما استقر في وجدان المشاهدين من خلال ذلك الفيلم المشهور، فقد أصبح كل الغربيين من المتعاملين مع العرب يقيّمون بل ويقدمون بالمقارنة بلورنس تاريخيا وعمليا. وقد سجل الأستاذ ناصر الدين النشاشيبي حواراً له مع عبد الله فيلبي في سنواته الأخيرة، وأضاف إلى هذا الحوار آراءه هو نفسه في عبد الله فيلبي، وفي كتابه "ماذا جرى في الشرق الأوسط": اختار الأستاذ ناصر الدين النشاشيبي عنوانا موحيا للفصل الذي كتبه عن عبد الله فيلبي، فكان هذا لاعنوان هو: لورنس رقم 2، لكنه في نهاية ذلك الفصل أخذ يقول رأيه الأعمق وهو إن لورنس كان شيئاً من عبد الله فيلبي، وليس العكس. بل إن الأستاذ النشاشيبي كتب في مقدمته لفصله أن عبد الله فيلبي نجح فيما عجز عنه زميله وصديقه لورنس الذي عجز عن أن يُداري التضارب والتناقض بين حاضره وماضيه، وقرّر أن يهجر العرب ويُغادر الشرق الأوسط، وينسى الصحراء أما عبد الله فيلبي فقد نال أقصى المكافآت على حد تعبير النشاشيبي فأعطته "الصحراء" مكاناً سامياً بجانب الجالسين على عروشها، وقاسمته المال العائد من ثمن البترول المستخرج من أرضها، وصبرت طويلاً طويلاً على كيده حتى عندما هاجم حُكّامها ووضع عنها الكتب التي زيّنها بطابعها الهوائي الخاص. أماعبد الله فيلبي نفسه فقال للنشاشيبي إن لورنس كان مُخلصاً للعرب كلَّ الإخلاص وإنه لولاه ما نجحت الثورة العربية. لكن فيلبي كان يقول عن كتاب لورنس "أعمدة الحكمة السبعة" إنه كتاب عن الحرب عند العرب وليس عن العرب مثل كتبه هو. ذهب الأستاذ ناصر الدين النشاشيبي في آرائه إلى اتهام عبد الله فيلبي بأنه لم يأخذ من الإسلام إلا اسمه، ولم يأخذ من الشرق إلا الكوفية والعقال، ولم يخدُم العرب إلا عندما فكّر أن يخدُم نفسه. ثم يقول في نهاية الحديث عنه أنه حين مات في أول أكتوبر 1960 في بيروت لم يُشيّع جنازته على ما رواه النشاشيبي إلا ولده وزوجته وأربعة حمّالين نقلوا النعش إلى مثواه الأخير.
ارسال التعليق